Air Mata Bilyatcu
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
Genre-genre
قال يداعبها: وأنا الذي انتشلتك، أليس كذلك؟
قاطعته قائلة: أنت وماما، ألم تقل لنا إنه قديم ويرتجف كالنخلة العجوز كلما مرت عربة أمامه؟ لم يكف عن ضحكه وقال: يا عبيطة! وكيف ننتشلك ونحن معك تحت الأنقاض؟! اسكتي فهما قادمان، ولا تحكي شيئا لماما حتى لا تصمم على السفر اليوم قبل أن نهنأ بالوصول.
أخذ صادق يهرج كعادته مع نورة حتى غافلها عن ألم الإبرة التي لم تصدق أنها انغرزت في جلدها دون أن تشعر، وسلم محمود روشتة كتبها على عجل وهو يقول له: عند اللزوم فقط، إذا انتابتها الرعشة، طبعا سأكون هنا فورا، من باب الاحتياط، فربما أذهب في العصر إلى العزبة. قال محمود وهو يمشي معه إلى الباب: اسمح لي أن أذهب معك لإحضار الدواء من الصيدلية. ثم وهو ينظر إلى زوجته التي اكتسى وجهها ملامح جادة ساخطة: سأفوت بالمرة على شقيقي حامد، تعرفين أنه هو الوحيد الذي يحتفظ بمفتاح المدفن، لدي رغبة شديدة في زيارة والدي وإخوتي وقراءة الفاتحة.
قالت أنيسة بلهجة حادة جعلتها تقطيبة جبينها وحاجبيها نذير خطر وشيك: لا تنس يا صادق أن تقول له كل شيء بصراحة، ربما يصحو أخيرا من نومه ونصحو معه. توقف الدكتور محمود أمام الباب مستفسرا وتطلع إلى وجهيهما، وابتلع الكلمات الأخيرة التي أطلقتها زوجته ولم يقل شيئا كعادته.
وهتك صادق ستار الصمت الخفيف الذي انسدل بينهم وهو يقول في ضحكة متصنعة: يا خبر بفلوس، البلد كلها تعرف! باي باي يا نورة، باي باي يا أنيسة.
3
في سيارة الدكتور صادق التي أقلتهما إلى السوق شعر محمود وهو يجلس بجوار صهره أن المسافة التي تفصلهما لا تقل عن المسافة بين العصر الذري والعصر الحجري، لم يدر أحد منهما كيف يبدأ الكلام، وتبادلا نظرات جانبية وشت بالحرج الذي يضيق الخناق عليهما، فلو بادره صادق بفتح الموضوع لفسره محمود بأنه تدخل في أموره الخاصة، وربما تطرق به إلى التشكك في شماتته به أو تعريضه - المغلف دائما برنة السخرية - بطبيعته الحالمة على الرغم من بياض فوديه والشعر الأشيب الكثيف في صدره، ولو بدأه محمود بالكلام فقد يفهم أنه ملهوف على سماع خبر ربما يخرجه عن رزانته ووقاره، وهو الذي رجع إلى البلد ليجد السكينة المفتقدة في زحام العاصمة وضوضائها وصراعات الوحوش فيها، وتعمد صادق أن يدخل إليه من الزاوية التي يكرهها فأخذ الكلام ينهمر من فمه عن مشروعاته الناجحة في تربية المواشي والأغنام والخيول، وعن مشروع المذبح الآلي الذي اتفق مع زملائه على البدء فيه بعد الانتهاء من دراسة الجدوى وإقناع البلدية بالتصريح به بعد إغلاق المسلخ الحالي الذي لم يعد يساير التقدم في العالم وفي كثير من أرجاء مصر نفسها، وتتابعت زخات المطر الهاطل من فمه الضاحك في معظم الأحيان حين شعر محمود بأنه يتثاءب ولم يجد وسيلة لحماية رأسه سوى التأمل في المزارع والمصارف والبيوت الطينية الواطئة التي كانا يعبران بها في طريقهما إلى السوق، وسرح أيضا في حديث صامت عن الحديقة وذكرياتها الحاضرة في وجدانه كأن أحداثها جرت بالأمس، رأى نفسه صغيرا كالجزرة أو كالبلياتشو القزم الذي شاهده مرة مع شقيقه الأكبر وهو يرقص ويغني في السيرك ، وتراءت أمامه صورة العائلة التي كان يجتمع شملها في الحديقة بعد صلاة العشاء لشرب الشاي والتسلي بالنقل وأبي فروة المشوي على نار الموقد الصغير. أبوه على رأس المجلس ومسبحته في يده ووجهه الأبيض المستدير يشع طمأنينة، وعيناه العسليتان تنظران بزهو إلى أبنائه الأربعة وبنتيه المتزوجتين اللتين يحضرهما الزوجان يوم الجمعة بعد العصر بقليل، ويرجعان لأخذهما بعد العشاء، وكيف ينسى أمه الحبيبة التي توزع الفاكهة والفطائر على الجميع، وتهرول بقامتها القصيرة وجسدها الممتلئ بين المطبخ والحديقة وهي تحلف على الجميع بحق أولياء الله أن يأكلوا، وتأتي بالمبخرة وتطوف بها على رءوسنا وهي ترقينا باسم الله وحبيبه المصطفى وتدعو لنا بالستر في الدنيا والآخرة كأنها تستصرخ الملاك الحارس لكل واحد منا وتكاد تأمره فيطيع: ربنا يجعل يومي قبل يومكم يا أولادي!
طافت به الصور المتتالية من شريط الذكريات، صور لم يعشها بنفسه لأنه كان غائبا في البعثة، وصور انطمست معالمها أو كادت بعد أن مرت عليها عقود من الزمن وغطتها بغبار القدم الذي أطفأ بريق ألوانها: لعبة «صلح» مع إخوته الذين كانوا يعفونه دائما من الأقلام المفرقعة كالسياط على قفاهم ويقصرون دوره على الجري وراءهم والتخفي في الكوخ الصغير أو خلف النخلتين وشجرة الأرز التي أشبعهم أبوه من قصتها وقصة صديقه التاجر اللبناني الذي أهداه شتلتها ودعاه لزيارة الجبل الأشم في يوم لم يأت أبدا، وقبل أن ينتبه على سؤال صادق وتعجبه من سرحانه الذي شكت منه أخته كثيرا، كان قد بدأ يتذكر ليالي أخرى لم يقدر له أن يحضرها بسبب غيابه عن البلاد أو أسفاره المتتالية في المؤتمرات والندوات العلمية: وفاة أمه بعد سفره بشهور قليلة ثم وفاة أبيه والمأتم الفخم الذي أقيم له وحضره الآلاف كما قال له إخوته بعد ذلك، وزواج أخته في الحديقة نفسها قبل أن يعي شيئا مما حوله، ووفاة كبراهما أثناء غيابه في بلد عربي، والصغرى بعد ولادة عسيرة ووصوله بعد المأتم بثلاثة أيام لتلقي العزاء، أما المأتم الذي أقيم لشقيقه الأكبر على أثر وفاته متأثرا بمرض مفاجئ فكيف ينساه أو ينسى اجتماع شمل الأسرة بعد الليلة الكبيرة في الحديقة؟
نبهه صوت صادق الذي شد الكابح فوقفت السيارة فجأة: هوه! دائما مع الأشعار والحضارات القديمة؟
رد محمود ضاحكا: وأنت دائما مع البقر والجاموس وفراخ المذبح الآلي!
Halaman tidak diketahui