Air Mata Bilyatcu
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
Genre-genre
ضحكت لكلامها السخيف وصممت أن أمضي في البحث عنه، جاء أبي على الهيصة عائدا من السوق، سأل: إيه الحكاية يا أولاد؟ ولما علم بما جرى للديك غمغم مستعيذا بالله: يا خسارة الفلوس، لو كنتم فتحت عينيكم ما كان ضاع. زمجرت أمي: يعني نعمل عليه حرس يا أولاد؟ اتجه إلى حجرته مكتفيا بقوله: ديك إفرنجي ما له وجود، الناظر قال لي خد بالك منه يا أبو محمد ولا تفرط فيه، خسارة على الصبح، يا فتاح يا عليم، ردت أمي غاضبة: يعني نقطع نفسنا؟ إن كان لنا نصيب فيه مصيره يعرف البيت.
تدخلت لأمنع شجارا يوشك أن يندلع بسببي، قلت أسترضي الجميع: إن شاء الله نلاقيه، خلوا المسألة علي.
قالت أمي وهي ترمق باب الحجرة التي أوصدها أبي على نفسه بنظرة غاضبة: كله على الله يا ابني، ولا نسمع كلمة تنغصنا على الصبح، بدأنا أنا والخادمة السوداء ذات السحنة العجيبة والضب الكبير في البحث من جديد، لم نكن نخفي على أنفسنا أن الأمل ضئيل في العثور عليه، ولكن العناد أو انتظار معجزة غامضة هو الذي كان يحركنا في أرجاء البيت وفي زواياه وأركانه، ولا بد أن هذه المعجزة الغامضة هي التي هدتنا إلى مكانه، هكذا بمحض الصدفة وفي مكان لم نتوقع أبدا أن يكون فيه، فقد ساقتني قدماي إلى فتحة المنور، لا لأنني أردت أن أبحث فيه، بل لأن الخادمة كانت قد سبقتني إليه، ودلت رأسها الصغيرة كالبلية السوداء من فتحته، ربما كنت في الحقيقة أريد أن أجذبها بعيدا عنه، أو ربما راودتني الرغبة في ضربها على قفاها لأنها تفتش في مكان لا أمل فيه، المهم أنها سبقتني إلى الصياح فجأة: سيدي سيدي . قلت: ما لك يا بنت؟ جرى لعقلك حاجة؟ قالت: الديك يا سيدي، الديك والنبي. قلت: يا مجنونة، ابعدي لا تقعي. قالت: وحياة النبي الديك هنا، حتى اسمعه بيرفرف أهه.
أدخلت رأسي في فتحة المنور فلم أر شيئا، فالدنيا عتمة والكراكيب تملأ شبكة الحديد المسلح والخرق المهملة وقطع الخيش وزوج أحذية قديم وثلاث زجاجات فارغة وعلب سجائر فارغة كلها تسد عيون الشبكة، أمسكت الخادمة من ظهرها وأمرتها أن تمد ذراعيها وتخرج الكراكيب، أخذت أشجعها وأمنيها بهدية مناسبة فجاءت أمي على الصوت وفي يدها بصلة لم تفرغ من تقشيرها، قالت: يا ابني حرام عليك، البنت تقع تموت، قلت دون أن ألتفت إليها: تموت تموت، المهم الديك. قالت: والديك ما له وما للمنور؟ ابعدوا يا ابني ربنا يهديكم. أشرت إليها أن تسكت، قربت أذنها من فتحة المنور ثم مصمصت بشفتيها وعادت إلى المطبخ، وفرغت الخادمة من تنظيف الفتحة وأخذنا نتصنت، صاحت: سامع. حبست أنفاسي وأسندت أذني على الحاجز، قفزت إلى المطبخ وأنا أهتف: لقينا الديك، لقينا الديك.
أنكرت أمي واتهمتني بالجنون، جاءت بنفسها وأدخلت رأسها من الفتحة وقالت: والنبي أنتم عبط، يمكن خفاش ولا وطواط. قلت: هو الديك بعينه. نصحتني أن أشعل عود ثقاب أو أحضر الوناسة، فعلت بما أشارت به فتحققت المعجزة، ارتفع الصوت المشقوق كأنه يخرج من عالم آخر، من قبر مظلم أو من جب عميق. تذكرت يوسف في الجب وهتفت، وأنا أقبل أمي والخادمة اللعينة بلا تمييز: أنا الراعي، اطمئن يا يوسف. لم تفهم أمي شيئا، ولم أحاول أيضا أن أفهمها شيئا، بل جريت أنزل السلالم إلى الجيران.
بعد قليل عدت أجرجر خطواتي الثقيلة، رأت أمي سحنتي فقالت: ما لك كفى الله الشر؟ قلت: الجيران في إجازة. قالت: من يا ابني؟ قلت: عم منصور أفندي. قالت: آي صحيح، لو سألتني كنت وفرت على نفسك نزول السلالم. قلت غاضبا: لازم نشوف طريقة ونفتح الشقة. قالت: الصول في إجازة يا ابني، والست بتاعته قالت لي إنهم ناويين على المصيف . جلست على حاجز المنور وقلت: وما العمل؟ قالت كأن الأمر لا يعنيها: العمل عمل الله يا ابني، ننتظر لغاية ما يرجعوا. صرخت: ننتظر؟ والديك يموت من الجوع والعطش؟ قالت: آدي الله وآدي حكمته، ربنا يتولاه يا ابني. هتفت الخادمة: نرمي له الأكل يا ستي. زعقت أمي فيها: قدامي على المطبخ يا بنت. وبقيت وحدي أسند وجهي حينا على حاجز المنور وأدخل رأسي حينا آخر في فتحته، كان الظلام دامسا في القاع، وكان رفيف الأجنحة يصل إلى أذني على فترات متباعدة، أيها الديك المسكين، كنت تقف على الساتر وترفرف بجناحيك وتنفش ريشك وترفع صوتك المبحوح بالصياح، كنت تمد منقارك إلى السماء كأنك تريد أن تنقر حبات النجوم، كنت توقظ النيام وتعلن موكب النور وترفع القناع عن وجه الفجر، وها أنت مخنوق في الظلام، مدفون بالحياة في البرد والرطوبة، لماذا لا تسرح في شقة الصول كما تشاء؟ لماذا لا تبحث فيها عن بقية طعام أو شربة ماء؟ لا بد أنك وقعت في شبكة الحديد فلم تستطع تخليص نفسك، لا بد أنك يئست من طلوع الفجر فانقطعت عن الصياح.
أصبح همي منذ ذلك الحين أن أنزل له الطعام، أقنعت أمي أننا يجب أن نفعل المستحيل لنبقيه على ظهر الحياة، كنت ألاحظ أنها تشك في مجهودي، ولكنها لم تكن تضن علي بما أطلبه: فتات الخبز المتبقي من الطعام، حبات الشعير والأرز المطبوخ، أعواد الفجل والجرجير، قطع من قشر البطيخ والشمام. صحيح أنها كانت تبدي شكها في وصول الطعام إليه، وكنت أنا أيضا أستبعد بيني وبين نفسي أن تصل بقايا الطعام من الدور الثالث إلى الدور الأرضي، بل وأشك أيضا في أن يعثر عليها الديك، أو يجد له نفسا فيأكلها إذا عثر عليها.
ولكنني كنت على كل حال أحاول كل ما أستطيع، وأغوي نفسي بأن الديك المسكين جائع، ولا بد أنه سيتلقف كل ما يجده، ومع أنني كنت أضع في حسابي أنه يعيش الآن في شبه ظلام دامس، وأن الرطوبة لا بد أن تكون قد أثرت عليه ويبست أطرافه ونفذت إلى جسده، وأنه يفتقد الهواء المنعش كما يفتقد نور الشمس بالنهار وبريق النجوم بالليل وصياح الدجاج من حوله، ودفء الإحساس بالشهامة والقوة والتسلط والكبرياء، مع هذا كله فقد كنت لا أكف عن إرسال ما أستطيع إرساله إليه من الطعام، كنت أقذف به حينا بكل قوتي، على أمل أن يصل إليه جزء قليل منه، أو أكومه في ورقة ألفها عليه وأرميها من الشبكة، أو أربطها في حبل طويل أدليه بعناية وحذر، ويظهر أنني كنت نسيت أن الديك يحتاج إلى الشراب إلى جانب الطعام، لولا أن نبهتني الخادمة إلى ذلك، وقد فكرت طويلا في طريقة أوصل بها الماء إليه، ولم يبق أمامي سوى أن أصب كل يوم من القلة، مع علمي أنني ربما كنت أؤذيه بهذا الماء الذي لا شك أنه سيزيد من الرطوبة التي يعيش فيها، كما أنه سيسيل على الأرض ولن يستطيع المسكين أن يشرب منه شيئا، المهم أنني كنت أجد العزاء الحقيقي كلما أسندت رأسي على فتحة المنور فسمعت رفرفة الأجنحة أو تبينت أثرا ضئيل للحياة، كنت أحس بأنني أمام قلب ينبض في الظلام والرطوبة بعيدا عن النور والهواء، ولكنها حياة على كل حال، تطالبني في كل لحظة بأن أفعل في سبيلها شيئا.
صحا أبي من النوم بعد الظهر وجاء يطلب الشاي، رآني في جلستي على حاجز المنور، فسألني عما أفعل، حكيت له الحكاية وقلت له: إنني متأكد من أن الديك سقط في المنور، قال: إن حضرة الصول في إجازة، وإنه ربما لا يعود قبل شهر. قلت: إن المهم أن يبقى الديك حيا بأية وسيلة. قال إنني أضيع وقتي من غير فائدة والديك سيموت.
انزعجت لأنه قال هذا ببساطة كأنه يقرر أن الجو حار وأن الشاي ثقيل، قلت: إنني سأفعل كل شيء لأنقذه، فهو يعلم كم أحبه، قال متهكما: إن الديك مات وإن سيدنا المسيح نفسه لن يحييه. قلت: إن الديك حي وسيظل حيا بأمر الله. سألني إن كنت أنوي أن أبيت عندي أو أسهر وأعد النجوم ، فهمت أنه يلمح للمذاكرة وعمل الواجب، فقمت واتجهت إلى حجرتي.
Halaman tidak diketahui