Diwan Mazini
ديوان المازني
Genre-genre
وأخذ ينقه الأدب من هذه الآفة منذ نحو العشرين سنة، أي حين بلغت دعوة الحرية الفكرية مسامع الشرقيين فراغوا إلى أنفسهم يسألونها عن سالفهم ومؤتنفهم، ويستفسرونها عن حياتهم ومماتهم، كما يسأل الناشئ نفسه إذا وكل إليه أمره، وانفصل عن رعاية أبيه أو وليه؛ وكانت علامة ذلك أن ظهر التفاوت في الأساليب، وانفرد كل كاتب أو شاعر بطريقة في كتابته أو نظمه، والتفاوت في الأساليب دليل الاستقلال، والاستقلال دليل الطبع والحياة، وهل يتفق التشابه والتماثل إلا فيما له قوالب وأنماط؟ وأين القوالب والأنماط إلا في صيغ الألفاظ وتراكيبها؟
وكما يكون التفاوت في الأساليب بين شعراء الأمة دليلا على حياتها، وتنبه الطباع في أبنائها، يكون التفاوت في شعر الشاعر دليلا أيضا على حياته وطبعه، ولقد سمعت أديبا يعيب شاعرية المتنبي ويصغرها لبعد ما بين جيده ورديئه، وهو الآية على شاعريته عندي، إن لم تكن آية سواه؛ لأن الشاعر قد يحكم قلمه، ويدعو الألفاظ فتسعفه، ولكنه لا يحكم طبعه، ولن يكون الطبع عند دعوته، بل إنما الإنسان عند دعوة طبعه، وهو رهن مما توحي إليه سجيته.
ولسنا نعني بذلك أن كل شاعر له في شعره الجيد والرديء، هو شاعر مطبوع، فإن لكل ذهن خامد جلوة، ولكل طبع بارد سورة، والريشة الميتة قد ترفعها الريح إلى حيث تحوم أجنحة الكواسر، وقد يسمو الطبع الكليل إذا استفزته العاطفة، فيسترق السمع من منازل الإلهام، ثم لا يكاد يلتفت إلى نفسه حتى يهوي إلى مقره، ويروقني في هذا المعنى قول لويس مترجم جيتي شاعر الألمان، وذلك إذ يقول في عرض كلامه عن رواية فوست: «ربما كانت مقدرة العقل الكبير لا تظهر إلا في مثل هذه الصغائر، وأما الكتاب الأصاغر فإنهم يبالغون في هذه الأغراض أو يقصرون عنها، ولكنهم لا يعطونها حقها، انظر إلى الأجسام فإنها تضيء كلها على درجات مختلفة من الحرارة، وكذلك صاحب العقل الخافت قد يأتي بالفلق، وينطق بالحكمة، وهو مضطرم النفس، محتدم الطبع، ولكن من تلك الأجسام ما يعود إلى المألوف من حاله، فينم عن غلظه وكثافته، والعقل الخافت إذا فترت حرارته، عاودته ضآلته، وفارقته تلك القوة التي اقتسرها على الخروج ضغط الأفكار المزدحمة عليه، ولذع العاطفة المتأججة فيه، وفي ذلك مصداق المثل السائر القائل: إن الكبائر تظهرها الصغائر، والريح إذا هبت على الماء تشابه الغمر بالضحضاح، حتى إذا استقرت الأمواج رأينا قاع الضحضاح قريبا، وعلمنا أن غور الغمر أبعد مما يصل إليه مسبارنا.»
وربما تشدد بعض النقاد فجعلوا شعور الشاعر بنفسه، حدا بين الطبع والتكلف، فإذا خيل للناقد وهو يقرأ القصيدة أنه نسي الشاعر، ولا يذكر إلا شعره، فالشاعر مطبوع، وإن كان يلوح له وجه الشاعر من حين إلى حين بين أبيات القصيدة، فهو عنده متكلف صناع. ولست أنا ممن يميلون إلى هذا الرأي؛ لأنه يخرج كثيرا من الشعراء المجيدين من عداد الشعراء المطبوعين، ولا فرق عندي بين شاعر يشعر بنفسه في كلامه، وشاعر يغيب في عاطفته، إلا كالفرق بين المليح المزهو بجماله، والمليح الذي يوهمك كأنه قد نسي أنه جميل، على أن لكل منهما جماله، ونحن عسيون أن ننظر إلى ذلك الشعر، فإن كان صادقا مؤثرا فهو من شعر الطبع، وإلا فهو من شعر التكلف، وهو إذن لا بالمليح المزهو، ولا بالمليح الغافل عن جماله، وإنما هو دميم يتحالى بالطلاء والزينة.
ويختلف شعر الطبع في لغة الأمة بين عصر وعصر، كما يختلف منهاجه في العصر الواحد بين شاعر وشاعر، وكما تختلف درجته من الإجادة في شعر الشاعر الواحد بين قصيدة وقصيدة.
فالشعر العربي قد اتخذ له في كل عصر طريقة تناسب روح ذلك العصر، وهذه الطريقة العصرية لا تشبه طريقة البداوة، ولا هي في شيء من طريقة الدولة العربية، ولكنها طريقة يمليها عصر تغير فيه محل الإنسان من بيئته ومجتمعه، وخلعت فيه الطبيعة أمام عينيه ثوبا بعد ثوب، حتى وقفت بالمجسد بين يديه؛ فظهر له ما كان خافيا، وازداد توقه إلى استطلاع ما لم يبد، وكان فيما بدا له مقابح ومحاسن، كان سابق ظنه بها غير ما عاينه منها، فلو أن شعراء المذهبات بعثوا اليوم من أرماسهم، لما نظموا حرفا واحدا من مذهباتهم، ولكانوا في المذهب العصري أشد من أشد دعاتنا غلوا في الدعوة إليه.
قلنا: إن الشعر العربي نشأ منشأ جديدا من نحو العشرين سنة، ونقول: إنه كان نضالا نزع فيه الظافر أسلاب المخذول، ولكنه لبسها؛ فكان ظافرهم ومخذولهم أقرب الناس زيا، وأشبههم بزة، ونحن اليوم غيرنا قبل عشرين سنة؛ لقد تبوأ منابر الأدب فتية لا عهد لهم بالجيل الماضي ، ونقلتهم التربية والمطالعة أجيالا بعد جيلهم، فهم يشعرون شعور الشرقي، ويتمثلون العالم كما يتمثله الغربي، وهذا مزاج أول ما ظهر من ثمراته أن نزعت الأقلام إلى الاستقلال، ورفع غشاوة الرياء، والتحرر من القيود الصناعية، هذا من جهة الأغراض والأنساق، وأما من جهة الروح والهوى، فلا يعسر على الندس البصير أن يلمح مسحة القطوب للحياة في أسرة الشاعر العصري الحديث، ويتفرس هذا القطوب حتى في الابتسامة المستكرهة التي تتردد أحيانا بين شفتيه.
وحسب الأدب العصري الحديث من روح الاستقلال في شعرائه أنهم رفعوه من مراغة الامتهان التي عفرت جبينه زمنا، فلن تجد اليوم شاعرا حديثا يهنئ بالمولود، وما نفض يديه من تراب الميت، ولن تراه يطري من هو أول ذاميه في خلوته، ويقذع في هجو من يكبره في سريرته، ولا واقفا على المرافئ يودع الذاهب ويستقبل الآيب، وما بالقليل من هذه الروح الشماء في الأدب أنها استطاعت أن تجهز على آداب المواربة والتزلف بيننا، أو تردها إلى وراء الأستار، بعد إذ كانت تنشد في الأشعار، وينادى بها في ضحوة النهار.
ولا مكان للريب في أن القيود الصناعية التي أشرنا إليها ستجري عليها أحكام التغيير والتنقيح، فإن أوزاننا وقوافينا أضيق من أن تنفسح لأغراض شاعر تفتحت مغالق نفسه، وقرأ الشعر الغربي، فرأى كيف ترحب أوزانهم بالأقاصيص المطولة والمقاصد المختلفة، وكيف تلين في أيديهم القوالب الشعرية، فيودعونها ما لا قدرة لشاعر عربي على وضعه في غير النثر، ألا يرى القارئ كيف سهل على العامة نظم القصص المسهبة، والملاحم الضافية الصعبة، في قوافيهم المطلقة؟ وليت شعري بم يفضل الشعر العامي الفصيح إلا بمثل هذه المزية؟
ولقد رأى القراء بالأمس في ديوان شكري مثالا من القوافي المرسلة والمزدوجة، والمتقابلة، وهم يقرءون اليوم في ديوان المازني مثالا من القافيتين المزدوجة والمتقابلة، ولا نقول إن هذا هو غاية المنظور من وراء تعديل الأوزان والقوافي وتنقيحها، ولكنا نعده بمثابة تهييء المكان لاستقبال المذهب الجديد؛ إذ ليس بين الشعر العربي وبين التفرع والنماء إلا هذا الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول، بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية، وشعراء الوصف، وشعراء التمثيل، ولا تطول نفرة الآذان من هذه القوافي، ولا سيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان.
Halaman tidak diketahui