Kajian Falsafah Barat
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Genre-genre
خامسا: الفلسفة والابتسار
وكما أن الفلسفة تموت إذا ما سادت المذهبية والشمول والغطاء ووضع جميع البشر تحت القبة السماوية التي لا منافذ منها، فإن الفلسفة تموت أيضا من قصر النظر والابتسار والرد والاقتضاب والتجزئة. فإن ضيق الأفق والالتصاق بالموضوع إلى حد محو المسافة بينه وبين الذات اللازمة للإدراك يؤدي إلى غياب النظرة الشاملة وعدم رؤية العلاقات بين الأجزاء. ولما كان الجزء بمفرده ليس قانونا ولا نظاما ولا تصورا حدثت الأزمة في العلوم، فينتقل الوعي إلى جزء آخر يجربه إلى حين وهو الجزء المقابل للأول وكرد فعل عليه فتنفرج الأزمة مؤقتا ولكن سرعان ما تظهر من جديد. فيتم تجريب جزء ثالث في الوسط يجمع بين الجزءين السالفين قدر الإمكان، ولكنه يظل أيضا جزءا أو كلا مصطنعا مجزأ مفككا، ويتم الانتقال من جيل إلى جيل بطريقة المحاولة والخطأ حتى تصبح الحيرة سمة عامة للوعي فيقع في نهاية الأمر في النسبية والشك، أو ينتهي به المطاف إلى العدمية المطلقة.
وقد حدث ذلك في الوعي الأوروبي ويعرف باسم الابتسار أو الرد أو الاقتضاب، رد الكل إلى أجزائه، وتقليص الشيء أو ابتسار الواقع وتقطيعه إلى أجزاء، وبتكرار هذا الرد يتحول إلى عادة في الوعي، فلا يواجه كلا إلا إذا رده إلى الأجزاء خوفا من الوقوع في الكليات التي لا تدعمها شهادة الحس. فاليقين المادي على الأقل يمكن رؤيته وقياسه كما، والبرهنة عليه حسا، وليس ظنا أو سرابا أو وهما كما كانت الكليات السابقة من قبل. عظم شأن الاستقراء، وتوارى الاستنباط، وتحول كل شيء إلى كم يقاس، وإلى أجزاء تعد حتى لم يعد هناك وجود لكيف أو لمعنى أو لقيمة أو لفكر أو لتصور. كان من الطبيعي أن يجرب الوعي الأوروبي الجزء بعد أن اكتشف زيف الكل الذي ورثه من العصر الوسيط والذي سرعان ما تهرأ وتهاوى بعد اكتشاف عصر النهضة والعلم الجديد. وقد حدث هذا الانهيار في كل العلوم لأنها كانت في معظمها كليات نابعة من العقائد، والعقائد من الكنيسة، والكنيسة من التاريخ. ولم يكن لها ما يصدقها من الحس أو المشاهدة أو التجربة أو العقل أو الاستدلال.
وهنا تموت الفلسفة لأنها لا تذهب إلى ما وراء الأجزاء لتدرك العلاقات وتبحث عن المعاني فيما وراء الألفاظ، وتكشف عن الدلالات. فاللامرئي هو أساس المرئي، والتصور الكلي للعالم هو الذي يربط بين الأجزاء، والإنسان يكون أقدر على رؤية الجزء من خلال الكل . وكثيرا ما كانت الاكتشافات العلمية في إدراك العلاقات الكلية.
1
ويؤكد تاريخ الفكر البشري موت الفلسفة حين تقع في الابتسار والتجزئة ووجهات النظر التي تنم عن التعصب والتحزب والانحياز. كانت الفلسفة اليونانية في اتجاهاتها الثلاثة: المثالية والواقعية والإنسانية نظرة شاملة للكون. ولم تقع في الابتسار إلا عند السوفسطائيين والشكاك الذين أنكروا المعاني المستقلة وراء الألفاظ، والحقائق وراء المدركات الحسية، ولكن الفريقين كانا عرضين في الفكر اليوناني. كذلك لم تقع العصور الوسطى في الابتسار نظرا لسيادة العقائد الكلية والتصورات الشاملة، ولكن ابتداء من العصور الحديثة وقع الوعي الأوروبي في الابتسار وفي النظرة الجزئية بعد رفع الغطاء النظري الشامل الذي كان سائدا في العصر الوسيط ابتداء من فرنسيس بيكون، واستمرارا عند لوك وهوبز وهيوم وانتهاء بالوضعية الاجتماعية والمنطقية.
2
ربما لم تمت الفلسفة عند بيكون أولا نظرا لأن الحس والتجربة كان لهما دور إيجابي في الكشف عن الأوهام وتأسيس المعرفة اليقينية، ولكن ظهر الابتسار بشكل واضح في المدرسة الحسية الإنكليزية عند باقي ممثليها بقول لوك المشهور: إنه لا يوجد في العقل إلا ما كان في الحس أولا - حتى العقل ذاته - دون مراعاة لاعتراض ليبنتز. فلا توجد أفكار فطرية ولا أوليات أو بديهيات عقلية. ولا توجد معان أو قيم مستقلة عن واقعها الاجتماعي أو حواملها اللفظية، ولا توجد قوانين مطردة ولا علل دائمة في الكون، فكلها تداع للمعاني، وتكرار تألفه العادة، وتعميم وتجريد ابتداء من المشاهد الحسية لدرجة أن كانط قد صاغ كل فلسفته للرد على هيوم. بل إن هوسرل أعلن أن فلسفة هيوم هي إفلاس
Bankrott
للفلسفة. ثم تحولت الوضعية المعرفية إلى وضعية اجتماعية، فالظواهر الاجتماعية أشياء ووقائع ولا يوجد شيء خارج المجتمع، وأن الفلسفة والدين لا يعبران إلا عن مراحل بدائية في تطور البشرية في حين أن العلم يعبر عن كمالها ومرحلتها الأخيرة. ولا توجد معان مستقلة عن الألفاظ بل إنه يمكن أيضا الاستغناء عن الألفاظ وتحويلها إلى مجرد رموز رياضية؛ ومن ثم ينتهي المذهب الحسي المادي إلى نقيضه في الصورية الفارغة. وفي تراثنا القديم لم يحدث هذا الابتسار الحسي حتى الآن إلا في أقل الحدود؛ نظرا لوجود التصور الشامل للكون المنبثق من العقيدة. ومع ذلك ظهر السمنية يدعون إلى المعرفة الحسية وينكرون البديهيات العقلية، كما ظهر المهندسون في الإلهيات يردون كل الصفات الإلهية إلى الحس والتجارب الإنسانية، ولكنهما لم يكونا تيارا أساسيا في فكرنا القومي.
Halaman tidak diketahui