Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Genre-genre
فأما الأنظار القصيرة، التي لا ترى أبعد من أنفها، فإنها تحد آلهتها وتعدهم بحدود الحوادث الفردية أو النوعية وأعدادها، فروح هذا الولي أو القديس الذي استجيب عنده الدعاء، وفاضت من حوله البركات، إله، وقرين ذلك الكاهن أو العراف الذي صدقت نبوءته أو فراسته، إله، والروح الذي هبط على الشاعر المفحم فحل عقدة لسانه، إله، والملك الذي أوحى إلى صاحبه ما أوحى، إله ...
وهكذا يقف الغافلون شاخصة أبصارهم في مواجهة كل أثر روحي عجيب ثم يخرون سجدا أمام مصدره المباشر، أو روحه الخاص الموكل به، كأنما هو المنبع الحقيقي للقوة، وقلما يتحررون من ربقة هذه الأسباب القريبة المحدودة المجال، الخاضعة لعوامل الحدوث والفناء وتقلبات الظهور والاختفاء، للتفكر في الكائن الغيبي الأعظم، الأزلي الأبدي، الذي بيده مقاليد الأرواح والأشباح على السواء، فمثلهم كمثل الذي يرى تفرق منابع الأنهار في الأرض، ولا يذكر أن مردها جميعا إلى أصل واحد، هو الماء الذي أنزله الله من السماء فسلكه ينابيع.
وأما العقول النافذة في بواطن الأمور، الممتدة إلى منابتها، فإنها لا تركن لحظة واحدة إلى هذه الظلال المتقلصة، والسحب المتقشعة، ولا تلهيها حركات هذه الجنود المنتشرة في السماوات والأرض عن التوجه إلى قيادتها العليا، إلى رب الأرباب، ومسبب الأسباب، الذي لا تخلو وثنية من الوثنيات عن الاعتراف به، وإن كانوا لا يذكرونه إلا قليلا.
والآن نرسم لك بإيجاز الطريق الذي سلكه «تيلور» وأتباعه في بيان تولد العقيدة الإلهية عن التجربة الروحية:
فقد ذهبوا إلى أن هذه العقيدة تمت على مرحلتين: «الأولى» الاعتقاد في بقاء أرواح الموتى، «والثانية» الاعتقاد بوجود أرواح للأفلاك والعناصر.
واتفقوا على تفسير المرحلة الأولى بأن فكرة الروح فيها تعتمد في جوهرها على تجربة «الأحلام» وعلى التفسير البدائي لهذه التجربة، وخلاصته أن الحلم عند «البدائيين» انتقال حقيقي لروح الشخص المرئي؛ أي: لجسم شفاف على صورته، هو أشبه بظل أو مثال له، ينبثق منه ويجيء إلى الرائي في المنام فيراه رؤية حقيقية على شكل طيف، كما ترى صورة الشخص في المرآة، وإذ كانت الرؤيا المنامية تتعلق بالأموات كما تتعلق بالأحياء، بمعنى أن أرواحهم - أي مثلهم - تجيء إلى الرائي في المنام كما تجيء أرواح الأحياء، دل ذلك على بقاء أرواح الموتى، واستمرار اتصالها بالأحياء، وتمكنها من نفعهم وضرهم، فاقتضى الأمر التقرب إليها لتجنب أذاها واستدرار عطفها.
أما المرحلة الثانية، وهي عبادة أرواح الكواكب والعناصر الطبيعية، فلهم في تفسيرها مذهبان: فأما «تيلور» مؤسس النظرية فيرى أن العقلية البدائية فيها من سذاجة الطفولة ما يقصر بها عن التمييز بين الجماد والحيوان، ويجعلها تعامل كلا منهما معاملة الكائنات الحية، كما يداعب الطفل دميته ويناجيها كأن فيها روحا.
وأما «سبنسر» فإنه يرفض هذا التفسير بحجة أنه لا ينطبق على نفسية الطفل ، ولا على نفسية الحيوان، فضلا عن العقلية «البدائية»، ويرجح أن عبادة الطبيعيات ليست نتيجة التباس عقلي كما زعم تيلور، بل وليدة التباس لغوي في أسماء الأسلاف المقدسين؛ ذلك أن هؤلاء الأسلاف كانوا يسمون أحيانا بأسماء مواد طبيعية، فكان بعضهم - مثلا - يسمى «نجما»، والآخر «نمرا»، والثالث «حجرا»، فانتقل التقديس من أصحاب تلك الأسماء إلى الأشياء المسماة بتلك الأسماء نفسها، خلطا بين الاسم المنقول لمجرد التمييز، والاسم الدال على أصل معناه.
وهذا التفسير - كما ترى - ليس خيرا من سابقه، فكلاهما يجعل العبادة في هذه المرحلة مبنية على اعتقاد حيوية الأفلاك، وكلاهما يجعل هذا الاعتقاد قائما على وهم أو لبس، وكلاهما يجعل العبادة موجهة إلى النفوس المتصلة بالكواكب، لا إلى روح مفارقة مهيمنة عليها.
كما أن عبادة الأسلاف، في التفسير المتفق عليه بينهما، مبنية في جوهرها على نوع واحد من التجارب، وهو تجربة «الحلم»، وعلى تفسير خرافي لتلك التجربة. وهكذا تصبح المذاهب الروحية في تقريرهما معلقة على خيط أوهن من خيط العنكبوت.
Halaman tidak diketahui