Agama Manusia
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Genre-genre
18
وتظهر التنقيبات الأثرية في مواقع نهايات العصر النيوليتي هذا التوجه الواضح؛ ففي القرى الزراعية النيوليتية التي تحولت إلى أشباه مدن، مثل شتال حيوك في سهل قونية بجنوب الأناضول، نجد البدايات الأولى للمعابد المكرسة، وذلك على شكل هياكل صغيرة للأم الكبرى وابنها الثور الإلهي. وفي جنوب وادي الرافدين خلال عصر تل العبيد، الذي شهد النقلة الحاسمة نحو حضارة المدينة، يمكننا تتبع مسار الانتقال من مقام متواضع للإله إلى معبد كبير يرتفع قرب القصر الملكي. ففي البداية، كان بيت الإله عبارة عن كوخ مبني بالطين ومسقوف بعيدان القصب كبقية بيوت الناس، فيه ينصب رمز الإله الذي كان عبارة عن جذع شجرة أو حزمة من أعواد القصب، وإليه تلجأ الجماعة لاستطلاع مشيئة الإله والتماس عونه. ولكن مع نشوء المدن الأولى واتساعها، تحول المقام الصغير إلى معبد كبير فيه قدس الأقداس الذي تتوزع حوله أجنحة لشتى الأغراض الدينية، ثم أحاط بهذه النواة عدد من الأبنية الملحقة، فيها حجرات لمعيشة الكهان، وأخرى للدرس والتعليم، ومكاتب إدارية من مطابخ ومشاغل حرفية وما إليها، فامتلأ هذا المجمع الديني بشتى أنواع المتفرغين لخدمة المعبد. ويكفي أن نعرف أن عدد الكهنة المتفرغين ومن في عدادهم، قد بلغ 736 كاهنا في المعبد الرئيسي لمدينة لجش السومرية، حتى ندرك مدى سلطة المؤسسة الدينية وسطوتها. ولقد بلغ عدد المعابد في مدينة بابل أيام الملك نبوخذ نصر ما يقارب ال 58 معبدا. ولنا أن نتصور هنا كم يلزم من الآلاف المؤلفة من رجال الدين للقيام على خدمة هذه المعابد.
19
فإذا كان الدين ظاهرة مترافقة مع الإنسان منذ استقلاله عن المملكة الحيوانية، فإن المؤسسة الدينية هي ظاهرة جديدة ومرتبطة بحضارة المدينة، وبمدى تطور البنى والمؤسسات الاجتماعية والسياسية في مجتمع المدينة، وهو المجتمع الذي تشكل لأول مرة في المشرق العربي القديم، وصار فيما بعد الشكل المميز للحضارة العالمية. ويبدو أن السبب المباشر في ظهور المؤسسة الدينية لدى الجماعات النيوليتية عند أعتاب التاريخ، هو وصول هذه الجماعات إلى مستوى اقتصادي متطور، من شأنه تحقيق فائض دائم في الإنتاج، يسمح بتفريغ عدد لا بأس به من الرجال والنساء للإشراف على المعبد وإدارة الشئون الدينية. ويبدو أن هذه النواة الأولى من رجال الدين الذين لا يعملون في الزراعة وإنتاج المواد الغذائية، كانت الوحدة الأساسية في بنية المدينة. فبعد إقامة المعبد الكبير، تركزت حوله مجموعة من النشاطات المرتبطة به، والتي أدت مع الزمن إلى تكوين المؤسسات المدنية المختلفة. ومن ناحية أخرى، فإن المعلومات التاريخية التي حصلنا عليها من مواقع المدن الأولى في سومر، تظهر الارتباط الوثيق، والتزامن، بين تطور المؤسسة الدينية وتطور المؤسسة السياسية. وليس قيام ملوك دويلات المدن السومرية بالجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، إلا مثالا على هذا الارتباط؛ فالملك السومري كان يحمل لقب «إن» الذي يتضمن معنى الملك بالمفهوم السياسي الذي نعرفه، وأيضا معنى الكاهن الأعلى.
ورغم انفصال السلطة السياسية عن السلطة الروحية فيما بعد، فإن المؤسسة الدينية حافظت بشكل أو آخر على طابعها السياسي، وغلب هذا الطابع على علاقاتها بالسلطة الزمنية؛ فطالما حافظ النظام السياسي على قوته، بقيت المؤسسة الدينية ضمن الحدود التي رسمها لها وقدمت له الخدمات المطلوبة، فإذا تضعضع النظام السياسي بغت عليه المؤسسة الدينية وجعلت منه مطية لها تحكم من ورائه. وهنا يمكن أن نذكر بالمثال الذي يعرفه الجميع عن نفوذ الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى ومطلع العصور الحديثة، وعن سلطان الباباوات على ملوك أوروبا.
لن أفصل أكثر في بحث المؤسسة الدينية؛ لأن مثل هذا البحث لا يدخل في مجال تاريخ وفينومينولوجيا الدين، وهو أقرب إلى مجال العلوم الاجتماعية. ولعل ما سقته هنا يكفي للدلالة على أن المؤسسة وتطورها كان مرهونا بظروف تعقد الحياة الاجتماعية، ولم تكن في يوم من الأيام عنصرا لا غنى عنه لدين الناس.
إن التمييز الذي قمت به أعلاه بين التبديات الثلاثة للظاهرة الدينية، لذو أهمية بالغة بالنسبة لمدخل بحثي هنا؛ فإذا كنت لا أود الآن أن أصوغ تعريفا شاملا للدين نظرا للمحاذير التي بسطتها ابتداء، فلا أقل من وضع حدود للظاهرة التي ينصب جهدي على دراستها، والتي أعنيها كلما أشرت لما ندعوه جميعا بالدين. إن الدين الذي أصفه هنا هو التعبير الجمعي عن الخبرة الدينية الفردية، التي تم ترشيدها من خلال قوالب فكرية وطقسية وأدبية ثابتة، تتمتع بطاقة إيحائية عالية بالنسبة إلى الجماعة.
هذه القوالب التي ترشد الحس الديني وتجعل من الدين ظاهرة جمعية، يمكن إرجاعها إلى ثلاثة، هي: (1) المعتقد. (2) الطقس. (3) الأسطورة. وأدعوها بالمكونات الأساسية للدين.
الباب الثاني
بنية الدين
Halaman tidak diketahui