Dhu Nurayn Uthman Ibn Affan
ذو النورين عثمان بن عفان
Genre-genre
أن يزن الأطوار الأخلاقية بهذا الميزان حيث يقول: «إنه ندر من رذيلة أو جريمة إلا كانت في زمن من الأزمنة منظورا إليها كأنها واجب من واجبات الديانة أو العرف، كالسرقة التي كانت تحسب فضيلة من الناشئة الإسبرطية ومن الطائفة الهندية التي تسمى بطائفة الخناقين، وقد كانت القرصنة - وهي سطو وقتل - صناعة محترمة في العالم القديم، وكان الاضطهاد الديني في القرون الوسطى أشرف الواجبات.»
وليس من الميسور في هذا المقام أن نفصل وجوه الخلاف بين الإباحة القديمة والتحريم الحديث في جميع هذه الفعال والخلال، ولكننا نكتفي بما يستطاع بيانه بغير حاجة إلى الإفاضة والإسهاب، كالقرصنة ما بين العصرين القديم والحديث، فهل القرصنة التي نحرمها اليوم هي القرصنة التي كانت مباحة بالأمس، أو هما نقيضان باسم واحد مشترك بينهما بوهم الاصطلاح؟
الواقع أن قرصنة الأمس كانت حقا كحق صاحب الملك الذي تسطو عليه؛ إذ كان صاحب الملك يجمع بضاعته بالسطو على قبيلة أو عشيرة أضعف منه وأعجز عن الهجوم والدفاع، فإن كان فيما يملكه شيء مصنوع فهو من صنع العبيد المسخرين في أرضه أو معمله، وكلهم من أسرى الحرب المغتصبين من أبناء القبيلة التي قهرت؛ لأنها عاجزة عن مقاومته ودفعه، فحقه في بضاعة السفينة كحق القرصان في السطو عليها، وليس هذا الحق الذي يستطيع القرصان في العهد الحديث أن يدعيه ويقبل التعارف عليه.
ويصدق على سرقة الناشئة الإسبرطيين ما يصدق على القرصنة في العصور القديمة، ويمكن أن يقال كذلك: إن الاضطهاد الديني في العصور الوسطى غير الاضطهاد الديني في العصر الحديث؛ لأن العمل لا يعتبر رذيلة أو جريمة إلا إذا كان فيه نقض لقيمة أخلاقية مصطلح عليها، ولم يكن التسامح ولا الحرية الفكرية قيمة مصطلحا عليها في العصور المظلمة بين الأوربيين سواء منهم المضطهدون ومن يقع عليهم الاضطهاد، فلو أن أحدا من الذين وقع عليهم الاضطهاد ظفر بمخالفيه في العقيدة؛ لاضطهدهم كما اضطهدوه وقسرهم على التصديق بعقيدته كما قسروه، وكلا الفريقين يستعيذ من حرية الفكر على اعتبارها تفريطا في الغيرة على الدين.
فالقيم الأخلاقية والوجدانية هي الجوهر المهم في تطور الأخلاق، وليست هي الأسماء والعناوين، ومتى ظهرت «القيمة» في أمة فهي مكسب حق لا شك في نفعه أيا كانت نية المنادي به على الصدق أو على الخداع، فلو لم يكن الذهب ذا قيمة لما استحق أن يزيفه المزيفون.
ومحاسبة الحكام كانت قيمة جديدة بين العرب وسائر المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، فنادى بها الخاصة والعامة وادعاها الصادق والكاذب، وظلت عاملا مهما في السياسة أيام الخلافة وبعد أن صار الحكم ملكا يتوارثه الأبناء عن الآباء. •••
أما الخليفة عثمان رضي الله عنه فأثر العقيدة فيه وهو فرد أوضح من أثرها فيمن قدموا إليه من الأمصار ليناظروه ويحاسبوه، وهو واحد من آحاد معدودين لم يكن في وسع العقل أن يتخيلهم في جاهليتهم على حالتهم التي ارتفعوا إليها بعد الإسلام.
إنه كان من سلالة الأمويين، وهي سلالة اشتهرت في الجاهلية بالحرص على المال لا تبذله في غير مأرب أو متعة، ولم ينهض أحد منهم بتكاليف المروءة والسخاء إلا منافرة لمن ينافسهم بين الملأ، وغيرة منهم أن يسبقوه إلى المجد والثناء، فلما أسلم عثمان رضي الله عنه كانت شهرته الكبرى بالسخاء والأريحية، فنزل عن ماله لتسيير جيش في سنة العسرة، ونزل عن ماله لشراء بئر يستقي منها المسلمون بغير ثمن، ونزل عن ماله لتوسعة المسجد، ونزل عن ماله لحمل المغارم وإعانة الملهوف والبر بالأقربين والأبعدين.
ومذهبه في محاسبة نفسه قد تتعارض فيه الأقوال والتأويلات، ولكنه في الأمر الثابت الذي لا جدال فيه قد بلغ الذروة من محاسبة النفس والتحرج من المساس بالحياة البشرية ولو في سبيل الذود عن حياته وحياة أقرب الناس إليه، فلما أيقن من القتل؛ أبى أن يبقى في داره من يقتل أحدا ممن يحيطون بها ويعالجون اقتحامها لاغتياله، ولما سئل أن يتنحى عن الخلافة أبى أن يتنحى عنها، ولم يكن إباؤه ضنا بشيء يحتويه، فلا شيء أغلى من الحياة وقد هانت عليه، ولا يزعم أحد أنه غنم من الخلافة مالا، بل يتفق المؤرخون على أنه ترك الدنيا وماله أقل مما كان لديه يوم ولي الخلافة، ولكنه أبى أن يخلع نفسه حذرا من أن يحمل جريرة الخلع وما يعقبه من النزاع والقتال، وقد صرح بذلك غير مرة فقال: إنه يخشى على الذين يستطيلون أيامه أن يتمنوا بعده لو كان يومه مائة سنة، فلا يبوءن بالعاقبة المحذورة وهو مختار. •••
فإذا تركنا الحوادث جانبا ونظرنا إلى التاريخ في صدر الإسلام على أنه تاريخ قيم ومبادئ، فلنا أن نقول: إننا أمام فواجع مؤلمة يود الناظر إليها لو يزوي بصره عنها، وليس لنا أن نقول: إننا أمام صدمة يصطدم بها من يسأل عن أثر العقيدة وأطوارها، فلا صدمة هناك إذا نحن وزنا الحوادث بميزان القيم، وعلمنا أن التاريخ لن يخلو من الحوادث، وأن حوادث الخلاف ليست بأكبر الشرور التي تبتلى بها ضمائر بني الإنسان.
Halaman tidak diketahui