وأذكر وأنني أنتظر نتيجة التوجيهية أن دعاني العوضي لأنزل ضيفا على كابينته في أبي قير التي كان قد استأجرها، واضطره العمل مع أبي في القاهرة - فقد كان يعمل في مكتبه - ألا يذهب إلى أبي قير إلا بعد عشرة أيام من تاريخ عقد الإيجار، وقبلت الدعوة، ودعوت معي أيضا الأستاذ عثمان نويه.
وقبل سفرنا بأيام قليلة كان قد ظهر للعوضي الوكيل ديوان أصداء بعيدة، وكان قد استكتبني فيه كلمة عن الهجاء في الشعر العربي. وكنت في ذلك الحين أكتب نقدا في جريدة الرسالة، فكتبت كلمة قاسية عن الديوان، وأشهد اليوم أنني ما أردت بها إلا مداعبة الشاعر العظيم، واتهمته في الكلمة أنه يكتب شعره بسرعة فائقة لا تسمح له بالتجويد. وسلمت الكلمة للأستاذ محمد سكرتير تحرير الرسالة، وسافرت أنا وعثمان نويه لنقضي أسبوعا في كابينة العوضي الوكيل، وكنت أرجو أن تتأخر الكلمة في النشر، حتى لا تظهر وأنا في ضيافة الرجل. ويشاء العلي القدير أن تظهر الكلمة في نفس اليوم الذي أنتظر فيه العوضي وعائلته على القطار لأسلمه مفتاح الكابينة. وكنت أعتقد أنه سيحمل الأمر على محمل المزاح كما تعودنا، ولكنني وجدته حزينا، وأخبرني أن السيدة حرمه بكت لما قرأت الكلمة، فرحت أمزح معه، وأسترضي السيدة العظيمة زوجته حتى ضحكا، وزال تماما ما علق بنفسيهما، وقال العوضي: «على كل حال أنا كتبت ردا عليك سيعلمك ألا تصنع هذا معي أبدا.»
فقلت له في مرح الشباب وغروره: «وليه بس؟ طيب أنا سأرد على الرد وأريك.»
ضحكنا وسلمته الكابينة، وكان أبي قد جاء إلى الإسكندرية، وذهبت لأقيم معه في البيت الذي استأجره في عامنا هذا، وظهرت مقالة الأستاذ العوضي فوجدته يقول فيها: «إن معالي والده معجب بسرعتي في كتابة الشعر.» ووضعني هذا القول منه في مركز حرج، ولكنني وجدت منفذا. فكتبت كلمة قصيرة جدا قلت فيها: «يظهر أن الأستاذ العوضي الوكيل قرأ مقالتي بنفس السرعة التي يكتب بها قصائده. أرجو أن يقرأ مقالتي مرة أخرى.» ونشرت الكلمة في نفس اليوم الذي كنت أتمشى فيه مع العوضي في ميدان المنشية بالإسكندرية، والتقينا هناك بالشاعر السكندري الكبير عبد اللطيف النشار، ولم يكن يعرفني، فإذا به يبدأ العوضي وهو وصافحه بقوله: «ثروت أباظة قتلك اليوم بالرسالة.»
فصاح العوضي: «هذا هو ثروت أباظة يا سيدي.»
وضحكنا جميعا.
ومن المداعبات التي لا أنساها مع العوضي أنه عين بعد ذلك مديرا لمخازن البريد، وكان فرحا بالمنصب غاية الفرح، فكتبت عنه مقالة في جريدة المقطم، قلت فيها إنه يضع على باب حجرته حاجبا له شارب كعارضة المرور، فإذا أراد أن يسمح لأحد بالدخول، فإنه يرفع شاربه ليسمح للداخل بالمرور.
وأذكر أنني قلت في آخر المقالة: لقد خسر فيه الأصدقاء شاعرا مجيدا، وما أظنهم كسبوا مديرا جديدا.
وفي يوم الجمعة التالي لظهور المقال كنت مع العوضي عند عملاق الأدب الأستاذ العقاد، فقال له بصوته العظيم كصاحبه إن ثروت قال عنا ما نريد أن نقوله لك. وكان العوضي من أبناء العقاد المقربين، وكان يعجب بشعره غاية الإعجاب.
والحقيقة أن العوضي الوكيل يعتبر علامة مضيئة في جيله. وكان عزيز باشا أباظة يعتبره أكثر شعراء جيله رصانة وقوة سبك وتدفقا.
Halaman tidak diketahui