وهذا لا شك ما أرادت الدولة أن تقدمه كجواب أو مصباح الرؤية في طريق المستقبل المعتم.
ولكن مع الأسف تمضي الأيام، وتصبح كلمة المعركة مجرد كلمة غامضة لا حدود لها، ولا أبعاد لمعناها، ولا تحليل لعناصرها، مجرد كلمة مطلقة تلوكها الأفواه. مجرد لقمة مستهلكة لكثرة مضغها، ويصبح الناس ويمسون ، وهذه الكلمة تتردد على جميع النغمات في الأناشيد والأغاني والخطب والشعارات، حتى فقدت قوتها وفاعليتها، بل وصدقها وصارت اللقمة الممضوغة في الفم غصة. لا هم يستطيعون ابتلاعها، ولا هم يجرءون على لفظها، وأصبحوا في حيرة من شأنهم، وأصبح طريق المستقبل أمامهم مرة أخرى مسدودا وهم في ضياع.
ولما كان الشباب هو الجزء الحساس في الأمة، وهو الذي يعنيه المستقبل أكثر من غيره، فهو لا يرى أمامه إلا الغد الكئيب؛ فهو يجهد في دراسته ليحصل على شهادته النهائية، فإذا هي شهادة القذف به في رمال الجبهة لينسى ما تعلمه، ولا يجد عدوا يقاتله، وهذا أيضا هو الضياع. أما بقية المواطنين فهم يعيشون بالنسبة إليه في حياة صعبة سيئة الخدمات العامة. وكل نقص وإهمال أو توقف أو عبث يختفي خلف صوت المعركة، وفي انتظار المعركة، وتمحكا بالمعركة، وإذا بالأمر في نظرهم ينقلب إلى مهزلة، وإلى سخط، وإلى قرف عام.
هذا بعض ما استقر في الضمائر هذه الأيام، ولا بد من حل سريع لهذا الوضع، ولا يمكن أن يكون هناك حل إلا في الصدق. والصدق وحده؛ لأن الصدق هو الذي ينهي الحيرة، ويقنع الناس، ويهدئ النفوس.
ولأن الغليان في باطن الإناء يهدأ إذا كشف الغطاء، فإن الشعب يريد أن يقتنع بشيء؛ لأنه غير مقتنع. ولا بد لراحة باله واقتناعه من عرض حقائق الموقف أمامه واضحة، وهذا يقتضي النظر في تغيير بعض الإجراءات التي تسير عليها الدولة اليوم، ومنها حرية الرأي والفكر، وحرية المناقشة والعرض لإلقاء الضوء على كل شيء؛ حتى تتضح الرؤية. وليكن ذلك داخل المؤسسات إذا كانت السرية في ظروفنا الحاضرة تقتضي ذلك. على ألا يكون للدولة رأي مسبق تضغط به على أهل الرأي، وتجعلهم مجرد أبواق لترديده وترويجه.
بل أن تكون الدولة آخر من يبدي الرأي بعد أن تستمع وهي جادة صادقة إلى رأي مصر الحر أولا، وأن تصوغ هي رأيها من رأي الشعب وممثليه، لا أن تصوغ الرأي، وتضع الشعار وتلقي به إلى الناس، وتفرضه عليهم فرضا.
آن للدولة في هذه الظروف العصيبة أن تتخفف هي من كل العبء والمسئولية، وتضعها على ظاهر الأمة. إن في ذلك مصلحتها، وصيانة لها أمام التاريخ.
الإثنين 8 يناير سنة 1973م
هذا هو البيان كما نشرته الصحف العربية، وقد كان من نتيجة نشره أن أصدر الاتحاد الاشتراكي قرارا بفصلي، وتلك كانت عجيبة يندر مثلها في العجائب؛ لأنني لم أكن في حياتي عضوا في الاتحاد الاشتراكي، وقد صحب هذا الفصل الصوري أمر بألا يظهر اسمي في الصحف على أي صورة من الصور. وانطبق هذا الإجراء الأخير على الأستاذين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وقد سعدت في هذه الفترة سعادة منقطعة النظير؛ لأن كل الذين كانوا يصنعون الكلمات المتقاطعة كانوا يصرون على أن يأتي اسمي من تركيب الحروف مع بعضها البعض.
ويجب اليوم أن أشهد أن هذه العقوبة التي أنزلت بي وبتوفيق الحكيم وبنجيب محفوظ تعتبر شيئا هينا بسيطا غاية البساطة بالنسبة للعقوبات البشعة التي كانت ترتكب في العهد السابق على عهد السادات.
Halaman tidak diketahui