ومما أذكر له أنه غضب علي مرة غضبا شديدا، فأمرني أن أفتح يدي، وأهوى بالمسطرة على يدي معتمدا على أن أبي قال له أمامي أنه يستطيع أن يضربني إذا أنا لم أمتثل له، وبالصدفة مرضت أنا في ذلك اليوم، وارتفعت حرارتي ارتفاعا شديدا، وكان أبي شديد العطف علي، وإن كان يحرص أن يخفي هذا العطف بكبرياء العظماء من الرجال، وقد يقول قائل وأي أب لا يشفق على ابنه إلا أن يكون ذلك شذوذا في الطبيعة، ولكنني أعتقد أن مرضي وأنا في الثانية من عمري، ومولدي وأبي في الأربعين من عمره، جعلا إشفاقه علي أكثر من إشفاق الآباء على أبنائهم. وربما كان هذا هو السبب أنني كنت أصحبه في غدواته وروحاته، وأنا في الرابعة من عمري، وكنت أجلس معه في مجالس الكبار منذ لا أذكر متى، وكان عمي عبد الله يقول له: «سيب ثروت يلعب مع الأطفال.» فيقول أبي في حسم: «خليه قاعد.»
وكان يصحبني معه إلى مجلس النواب، وأنا في الخامسة أو السادسة من عمري. حتى لقد رآني يوما المرحوم توفيق رفعت باشا، وأنا جالس في مقاعد الزوار في الطابق الأول، فأشار إلى الساعي الواقف خلف كرسيه على منصة رئيس مجلس النواب وأشار له إلي، وما لبث أن جاءني الساعي يسألني: من أكون؟ فقلت له، فتركني وعاد إلى توفيق باشا الذي أشار لي برأسه، فلم يكن عجيبا أن يغضب أبي لضرب عليوة أفندي لي ضربا صاحبه ارتفاع في الحرارة، وأنا حتى اليوم لا أدري إن كانت هناك صلة بين ارتفاع حرارتي وضرب عليوة أفندي أم هي الصدفة المحض.
وأغلظ أبي القول لعليوة أفندي على غير مشهد مني، ولكن عليوة أفندي روى كل شيء أمامي لعم أحمد خادمنا الذي كنت أوقره بكلمة عم لشخصيته، ولأنه رئيس الخدم بالبيت، وقد كان أبي ووالدتي يوليانه ثقة تامة في كل ما يتصل بشئون البيت.
وقال عليوة لعم أحمد إن البك، يعني أبي فلم يكن قد حصل على الباشوية بعد، قال لي: «أصدقت حقا أنك يصح أن تضرب ثروت؟ هل من المعقول أن تضرب طفلا في سنه إلى درجة أن ترتفع حرارته؟ أيرضيك هذا يا عم أحمد؟ بقى مسطرة كالتي ضربتها له ترفع الحرارة؟ طيب امرأتي طالق إن لم يكن قد أكل حلاة وشطة ليرفع حرارته ويوديني أنا في داهية.»
والحقيقة أنني ذهلت وأنا أسمع هذا الحديث، فأنا لم أكن أعرف أن الحلاوة والشطة يرفعان الحرارة، بل إنني حتى الآن لا أتصور أنهما قادران على هذا الصنيع.
ولكن عليوة أفندي كان واثقا من هذا ثقة جعلته يقسم بالطلاق مع حبه الشديد للسيدة زوجته أم محمد التي كثيرا ما كان يفيض في مديحها، وأغلب الظن أن عليوة ما زال حتى اليوم على ثقته هذه أنني أكلت حلاوة بالشطة، وأغلب الظن أيضا أنه من يقرأ هذا الحديث الذي أكتبه لن يكف عن يقينه هذا على الأقل لتظل السيدة زوجته على ذمته.
ألا ترى أنني بترت حديثي عن الحاج أحمد القرعيش، واستطردت في هذا الحديث عن عليوة أفندي؟
كان لا بد من هذا، فقد استمرت رحلتي مع الحاج أحمد إلى أن اختاره الله إلى جواره، ولم يقف الأمر بيننا عند الأستذة منه والتلمذة مني؛ فقد أصبح حين قدر الله لي هواية الأدب هو صديقي الأول في القرية، لا يتركني لحظة منذ قدومي إلى غزالة حتى أتركها. وقد كان لهذه الصلة أثر ضخم في ثقافتي وفي أدبي، وانضم إلينا قريبي الشاعر الأستاذ توفيق عوضي وهو الآخر شخصية لم أر لها مثيلا في حياتي كلها؛ فهو رجل فقير لم يدخل مدرسة، وكان كل ما يملكه فدانا واحدا كان يزرعه بذراعه، ولكنه علم نفسه بنفسه، وكان خطه جميلا، ولكنه بطيء في الكتابة كل البطء لا عن جهل، فهو من أعلم الذين عرفتهم باللغة العربية وآدابها، ولكنه أصيب في مرفق ذراعه اليمنى، فظل حياته كلها لا يحركها في سهولة.
قرأ كل الشعر العربي، وحفظ أغلبه، وكان يستعير الكتب من المكتبة العامة ومن جميع مظانها. أعجب بالمتنبي فنقل ديوانه كله؛ لأنه لا يملك ثمن اقتنائه، وأعجب بالبحتري فنقل ديوانه كله، كذلك فعل مع ديوان عمر بن أبي ربيعة، ولك أن تتصور مقدار الصبر والرجولة والإصرار التي يتحلى بها، وأنت تعلم أنه بطيء في الكتابة. والحق أنه كان في خلقه رجلا، وكان صبورا على الحياة كريما عليها وعلى نفسه، وكان معتزا بكرامته غاية الاعتزاز في ظرف وخفة ظل لا يتأتيان إلا لقلة نادرة من الناس. كتب خطابا إلى عزيز باشا أباظة، وتعثر الخطاب في الطريق، ولم يصل، وكان عمي عزيز في ذلك الحين مديرا لأسيوط، ومع ذلك رأى توفيق أن يشكو إلى عمه جمال الدين بك أباظة المستشار؛ فنحن في الأسرة لا نقيم وزنا للمناصب، وإنما القيمة عندنا بالسن، والمكانة عندنا تتحدد بالعمومة والخئولة. وكان يحفظ الشعر العربي كله من الجاهلية حتى شوقي، وكان يرعاني أنا بالذات رعاية الأب لابنه لما لمسه عندي من حب للأدب، فتوفيق حين اختار جمال بك لم يكن اختياره لمجرد العمومة؛ فقد كان لعزيز باشا أعمام آخرون على قيد الحياة، وإنما هو في ذكاء ولماحية اختار العم الذي يعتبره ظاهرة في زمانه في حب الأدب، وفي الاطلاع على التراث الأدبي من بدايته إلى اليوم الذي يعيش فيه، وكان إلى هذا جميعا نموذجا فريدا في العفة والحياء، حتى إنه لم يتزوج، وأرجح أنه لم يتزوج لأنه خجل أن يخطب. وكان رحمه الله أيضا صورة مجسمة للطيبة، هذا كله إلى تفقه في القانون يندر أن نجد له مثلا. كتب توفيق إليه يشكو عدم إجابة عزيز باشا على خطابه، وربما يجمل بي أن ألفت نظرك إلى بداية الأبيات التي كتبها توفيق، وكأنه يكتب خطابا مما يدل على قدرته ولماحيته واستطاعته أن يقول بالشعر الأصيل كل ما يريد أن يقول، إليك الأبيات:
جمال الدين والدنيا سلاما
Halaman tidak diketahui