ولما كان توزيع الدروس على الفرق الأربعة بيد القسم وبموافقة مجلس الكلية فقد تدخلت أجهزة الأمن من جديد لإعطائي أقل عدد من المحاضرات؛ ساعتين أسبوعيا، في غير مواد فلسفية حتى لا أثير أذهان الطلاب وذلك مثل اللغة العربية. لم أوافق على ذلك وتوقفت عن الذهاب إلى الجامعة، وقررت استغلال الوقت في الكتابة والتأليف.
وكان الاضطهاد الرابع قبل حصولي على جائزة الدولة التقديرية، فلم يرشحني القسم إليها بل رشحني قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ونلتها بالرغم من عدم موافقة قسم الفلسفة والذي أنتمي إليه. في سنة أخرى رشح القسم أحد أعضائه فلم ينل إلا صوتا واحدا في مجلس الكلية، ورشح أستاذا آخر في سنة أخرى، لم ينل إلا صوتين، بينما نال ترشيحي أنا جميع أصوات مجلس الكلية؛ فحصلت على جائزة الدولة التقديرية، وتكرر نفس الشيء قبل حصولي على «جائزة النيل الكبرى» والتي حصل على مثلها «نجيب محفوظ». لم يرشحني القسم بل رشحتني الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، كما رشحني أتيليه الإسكندرية للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. ونلت الجائزة بفضل هيئتين من خارج القسم، وأعطيت جميع عمال الكلية لكل فرد منهم خمسين جنيها، وزعتهم سكرتيرة القسم عليهم.
وفي الأعوام السابقة عندما شعرت أن الكلية انخفض صوتها في الأبحاث العلمية المشتركة والندوات والمؤتمرات المختلفة وضعت وديعة بمبلغ مليون جنيه مني للكلية لاستخدام عائدها السنوي لإقامة مؤتمرات وأبحاث علمية للأقسام منفردة أو مجتمعة، ولمساعدة الطلاب في طبع رسائلهم، ولم يتقدم أحد حتى الآن باستثناء الجمعية الفلسفية المصرية بعد عناء ومفاوضات مع العميد على ضرورة دفع نفقات دار الضيافة والعلاقات العامة من هذا العائد.
وكان هناك اضطهاد ضدي خالص، برفض التعيين في الكلية خشية أن تمتد أفكاري عن الحرية للشعوب واستقلال الجامعة، وأنه ستحدث ثورات شعبية وحركات طلابية تنادي بهذين المطلبين، وكانا نفس المطلبين اللذين طالبت بهما عبد الناصر في مؤتمر المبعوثين بالإسكندرية في أغسطس 1966م. وضعتني أجهزة الأمن على القائمة السوداء بسببهما. كانت من ضرورات التعيين بالجامعة موافقة أجهزة الأمن التي لم توافق. وكان أخي مدرسا بقسم اللغة العربية وضابطا احتياطيا بالجيش يستدعى ساعة الضرورة. وكان ضابط الأمن المسئول عن الموافقة أو عدم الموافقة على تعيين المعيدين أو المدرسين القادمين من الخارج، فأقنعه أخي بأنني لست مشاغبا وأن مناقشتي لعبد الناصر كانت مفتوحة أمام الجميع، ورد عليها عبد الناصر وناقشتها الصحافة المصرية؛ فوضعي في القائمة السوداء خطأ أمني؛ فاقتنع ضابط الأمن ووافق على تعييني بكلية الآداب بجامعة القاهرة.
ومرة أخرى جاءتني دعوة من قسم الفلسفة في روما في يناير 1967م لحضور مؤتمر دولي عن فلسفة الدين بعنوان «البراءة والخطيئة». وكتبت بحثا بالفرنسية بعنوان «أسطورة الخطيئة وواقع البراءة». ولما كان السفر إلى الخارج يتطلب موافقة الأمن، رفض الأمن لأن اسمي مدرج على القائمة السوداء؛ فأرسلت برقية إلى عبد الناصر بذلك الرفض، فرد خلال أربع وعشرين ساعة بالموافقة على السفر، وكان قد بعث خطاب الموافقة بالدراجة البخارية.
ومنذ ذلك الوقت وأنا أدرك خطورة أجهزة الأمن، وقد تم إبعاد رئيسها بعد هزيمة 1967م. بعد ذلك ألغي قرار «الورقة الصفراء» التي كانت ضرورية عند سفر أي أستاذ جامعي للخارج خشية أن يقول أي شيء ضد مصر؛ لأنها طلب غير دستوري.
الفصل السادس
الدين والسياسة
ارتبط الدين بالسياسة في مصر منذ عصر النهضة والإصلاح الديني؛ فقد كتب الطهطاوي «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» وهي سيرة للرسول، وفي نفس الوقت كتب «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» وهو كتاب عن النهضة في مصر، كما كتب محمد عبده «رسالة التوحيد» في الدين ، و«الثورة العرابية» في السياسة. وكتب طه حسين في الدين كتاب «على هامش السيرة» و«الفتنة الكبرى (عثمان)» و«مرآة الإسلام» و«الفتنة الكبرى (علي وبنوه)». كما كتب في السياسة: «المعذبون في الأرض» و«مستقبل الثقافة في مصر». وكتب العقاد في الدين «العبقريات» و«سعد زغلول» في التراجم. كما كتب في السياسة كتاب عن المقارنة بين الإسلام والشيوعية؛ فالدين والسياسة توأمان أو وجهان لعملة واحدة.
وبدأ الرسول ينشر التوحيد وتغيير البنية الاجتماعية للمجتمع العربي. وانتهى بالقضاء على إمبراطوريتي الفرس والروم، وخلق إمبراطورية جديدة من الأندلس غربا حتى الصين شرقا.
Halaman tidak diketahui