وبدأ القدر يغلي من جديد، ولكن لم يتصاعد البخار بعد، والضجر الموجود في القلب لم يحن له أن ينفجر؛ فلم يأت الوقت بعد، أصبح الوطن طاردا لأبنائه. أما الخصومة السياسية فلم تجد لها حق التعبير عن نفسها، وتخشى الاعتقال. والبطالة والفقر، لا حل لهما في سنوات الثورة. ولا يفي النظام بما يعد مثل تكوين لجنة من الشباب للإفراج عمن يستحق الإفراج من السجون. وهل الحرية منتقاة للبعض دون البعض الآخر؟ وربما هو كلام في كلام. وفي الواقع يزداد عدد المعتقلين، ويزداد بناء السجون مثل الإسكان الشعبي. ووزارة الداخلية تصرح بأنها لم تتلق أي طلب للإفراج عن المعتقلين أو على الأقل إعداد قائمة بمن يستحق الإفراج باسم الشباب ومن لا يستحق. ومرة ثانية يتم الاجتماع مع تنظيمات حقوق المرأة، والوعد بتحقيق ما تبقى منها ولم يحدث شيء. ومرة ثالثة الاجتماع مع المعاقين، والوعد بتسهيل حياتهم المعيشية، ولم يحدث شيء. في حين أن عبد الناصر بعد الثورة بسبعة أسابيع أصدر قانون الإصلاح الزراعي لتمليك الأرض للفلاح، وتوزيع أراضي الملك والباشوات على فلاحيهم في الأرض، بدلا من العمل فيها كعبيد، وأقام محاكم الثورة، فأصدرت أحكامها على رجال العهد البائد، ولم ينتظر سنين طويلة، والمثار ضدهم يعيشون في أجنحة في مستشفى المعادي أو في قصورهم سنوات وسنوات قبل أن يبرئهم القضاء كما حدث بعد ذلك.
وكان مصير الثورة العربية في تونس وسوريا والعراق وليبيا واليمن ليس بأفضل حال من مصيرها في مصر. منذ اندلعت الثورة في تونس بدأ التذبذب في الحكم بين العلمانيين والإسلاميين. ولما لم يختف العنف تماما راجع الإسلاميون المعتدلون في حزب النهضة أنفسهم وتجربتهم السياسية، وقرروا عدم العمل السياسي لفترة قادمة، والاكتفاء بالعمل الاجتماعي والتربوي. وما زال الجمع في حكومة واحدة بين الإسلاميين واليسار يتأرجح؛ فالماضي ما زال حاضرا في الأذهان. وفي سوريا بدأت الثورة سلمية، ولما بدأ النظام مقاومتها بالسلاح وليس بالحوار، اضطر الثوار إلى استعمال السلاح حتى تطورت إلى حرب أهلية، تدخلت فيها روسيا وإيران وحزب الله بجانب النظام. ولم تجد الثورة من يقف بجانبها إلا الشقيقة السعودية إلى حين وأحيانا تركيا، ووقفت مصر، كعبة العرب، بجوار النظام السوري، وتمت التضحية بالشعب السوري في سبيل السلطة، قتل نصفه أطفالا ونساء وشيوخا ورجالا، وهاجر النصف الآخر، ومن بقي ينتظر مصيره المحتوم، ويبكي على سوريا الوطن الحبيب. والعراق منذ الغزو الأمريكي وهو يصارع من أجل البقاء؛ فقد بدأت الطوائف، سنة وشيعة، والأعراق، أكراد وأرمن وتركمان في الصراع على السلطة المركزية في بغداد أو في تشكيل دويلات مستقلة طائفية وعرقية، مستقلة تماما في إطار السلطة المركزية في بغداد. وما زال الصراع دائرا حتى الآن. وفي ليبيا بعد انتصار الثورة انقسمت القبائل فيما بينها تطالب بالاستقلال أو بالعودة إلى الملكية أيام السنوسي قبل الوحدة، ودخلت في حرب أهلية لم تنته حتى الآن. وبعد أن نجحت ثورة اليمن، انقلب فريق من الثوار وهم الحوثيون على الثورة من أجل تولي السلطة في صنعاء، وانضم إليهم الرئيس السابق ناسيا جهاده من أجل توحيد اليمن بين الشمال والجنوب. وكون الفريقان ثورة مضادة. واحتلت صنعاء. وما زالت الحرب دائرة بين الوطنيين من جهة والحوثيين وصالح من جهة أخرى، ثم قتل بعد أن رقص على كل الحبال حفاظا على الكرسي. وضاع الشعب اليمني بينهما قتلا وذبحا وتنكيلا. وأصبح العالم كله يشهد جريمة قتل وتجويع ومرض ملايين الأطفال باسم الإسلام! وتصارعت أمريكا وإيران على باب المندب الذي جعله عبد الناصر بحيرة عربية؛ من الشمال قناة السويس، ومن الجنوب اليمن، ومن الشرق السعودية، ومن الغرب مصر.
وقد تنازلت مصر عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير اللتين حارب من أجلهما عبد الناصر في 1967م، ثم تنازلت عن ألف كيلو متر مربع للسعودية لبناء مدينة «نيوم» في ملتقى مصر والسعودية والأردن وإسرائيل مثل إيلات، وهي مدينة أم الرشراش المصرية التي احتلتها إسرائيل في 1948م، مصر بالأرض، والسعودية برأس المال، وإسرائيل بالتكنولوجيا والأردن بالسكان لتخفيف الضغط على غزة المحاصرة برا وبحرا، شرقا وشمالا إلا مصر جنوبا؛ فإليها الهجرة وتوطين الفلسطينيين، وحل القضية الفلسطينية في صفقة القرن. ويصبح الشرق الأوسط الكبير أو الجديد إقليما واحدا وسط إسرائيل التي يتودد الكل إليها وتؤازره أمريكا حليف المنطقة، فتبتلع إسرائيل المنطقة كلها، تربة وأرضا وسكانا وعقولا، وتكسب الحروب السابقة كلها بلا حروب قادمة.
وأخيرا عقد اتفاق بين مصر وإسرائيل على أن تشتري مصر الغاز من إسرائيل بخمسة عشر مليار دولارا، ومصر تعيش وسط بحيرة غاز، من السعودية والخليج شرقا، وليبيا غربا، وحقل «ظهر» شمالا. ومصر تدين ملياراتها للاستثمار، وهو ما فعله صديق الرئيس المخلوع عندما كان يصدر الغاز إلى إسرائيل بالمليارات، والحجة تصنيع الغاز، فتصبح إسرائيل مسيطرة على مداخل البحر الأحمر من الشمال في خليجي السويس، وأمريكا وإسرائيل على باب المندب، ويتحول البحر الأحمر من بحيرة عربية إلى بحيرة إسرائيلية. والآن يتم التخطيط لشق قناة بين البحر الميت والبحر الأحمر لضرب قناة السويس في مقتل التي من أجلها أضاعت مصر استقلالها وحفرتها بسواعد فلاحيها، وتم العدوان عليها في 1956م بعد تأميمها.
ورأيت فيما يرى النائم أنني دعيت للقاء الرئيس في معرض الكتاب وتسليم الجوائز، جائزة النيل، ومناقشته كما يفعل الرؤساء السابقون كل عام في عيد العلم. وغلب على تنظيم المعرض الجانب الأمني، وليس الجانب العلمي الثقافي. ووضعت الكراسي بالمئات بالقطيفة الحمراء وهي مكسوة بالأبيض وفارغة من أي زائر. وفات الموعد، والناس في الانتظار في الصفوف الخلفية يأكلون ما قدم لهم من طعام، ملء فراغ أو رشوة، فسرت بين الطرقات، وأنا أصيح: من ينتظر من؟ الرئيس في الاستقبال والمثقفون هم المستقبلون؟ وإلى الآن لم يظهر الرئيس! وهذه إهانة للمثقفين المدعوين، فجاء رجال الأمن، بعد أن قالوا لي كفاية يا أستاذ، ليستجوبوني: هل أنت إخواني؟ هل لك صلة بالإخوان؟ هل أحد الأصدقاء من الإخوان؟ وكأن أحدا لا يعترض على شيء إلا إذا كان من الإخوان! ولم يحضر الرئيس . وفي الحلم، رأيت أنهم أدخلوني في حافلة داخل سرداب طويل حتى جاءت استراحة لتناول المشروبات، وجاء من يعلن أن الرئيس مشغول اليوم! يبدو أن الأمن أخبره بشيء جعله يغير رأيه. وبعد ذلك بأيام عرض التلفزيون مقابلة قديمة مع بعض المثقفين، وكأنها حدثت في معرض الكتاب!
وبعد عام بدأت الرئة الأخرى التي يتنفس منها الشعب في الضيق؛ فقد غلت الأسعار إلى الضعف أو ثلاثة أضعاف في كل المواد خاصة المواد الغذائية التي منها يقتات الشعب مثل الفول والعدس، وزادت أسعار الخضار المجمد والطازج، وارتفعت أسعار اللحوم والأسماك والدواجن بحجة ارتفاع سعر الدولار حتى الفجل والجرجير والكراث والخيار والطماطم، وتعويم الجنيه. وبدأ النقد علنا، يخرج من القلوب إلى الأفواه، يد تعتقل في الداخل، ويد ممدودة للخارج. يد تسرق في الداخل، ويد فاسدة تهرب المليارات إلى الخارج. لا فرق بين رجال الأعمال ورجال الأمن ورجال السلطة. والأخطر من ذلك كله التفريط في أرض الوطن، والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير. وأصدرت محاكم بكافة درجاتها أحكاما بإبطال العقد، عقد البيع، ثم صدر حكم أخير للمحكمة الدستورية العليا بإبطال كل الأحكام القضائية السابقة، وأن ذلك من حكم السيادة!
إن الحطب جاف، فأين الشرارة؟ تلمع بين الحين والحين ثم تنطفئ، وآخرها هتف الشعب في استاد القاهرة بعد القبض على بعض المواطنين «حرية، حرية، حرية». وتصفيق الحاضرين في مدرج بعد أن سأل أستاذ في مناقشة رسالة الطالب عن حال التمدن والمدنية، وهو موضوع الرسالة الآن، فأجاب الطالب بالكتب في الموضوع. وطلب الأستاذ، ليس الكتب بل ما يشعر به الناس، سائق سيارة الأجرة، بائع الخضار، المواطن العادي؟ فلم يعرف الطالب المقصود لأنه تعود على العلم في كتاب. فساعده الأستاذ: ألا تشعر بأنك إذا وضعت أذنك على قلبك وجدت أنه ينبض بالفقر والاستبداد؟ فضجت القاعة بالتصفيق. ويظل السؤال قائما: متى ينتهي السقوط، ومتى يبدأ الارتفاع من جديد؟ خاصة وأنا أنتمي لجيل بدأ حياته بالارتفاع بحركة التحرر الوطني في الخمسينيات وينهي حياته الآن بالقهر السياسي، لا اليد تكتب، ولا اللسان يتحدث ، ولكن القلب ما زال ينبض.
وأحس الشعب بالإحباط كما أحس بعد ثورة 1919م عندما استولى عليها القصر والإقطاعيون والباشوات، واحتاجت إلى ثورة جديدة؛ ثورة الضباط الأحرار في 1952م. لم يعرف أحد تموجات الثورة متى ترتفع ومتى تنخفض، والكل يعرف أن ثورة الجياع قادمة، وما ثورة الغلابة في 11 / 11 / 2016م إلا بروفة، كيف تستطيع ثورة الآلاف أن تجند نصف مليون جندي وشرطي وأمن مركزي؟
والأخطر من ذلك كله الإحساس بالإحباط واليأس، وترك السياسة كلية والبحث عن لقمة العيش، ويساعد الإعلام على إيجاد البديل لهم؛ فهل يستطيع الإرهاب أو الإخوان أن يكون عدوا بديلا عن إسرائيل؟ احتار الناس من العدو ومن الصديق؟ هل العدو فيما بيننا والصديق خارجا عنا أم إن العدو على الحدود والصديق داخل الحدود أم إن العدو خارجنا والصديق داخلنا؟ فلا فرق بين بدو سيناء وفلاحي الوادي، بين الجيش والشعب، بين الشرطة والخارجين على القانون؛ فكلهم مصريون.
كان الناس يظنون طبقا لما يشاهدون أن الشعب قد مات؛ فلا هو قادر على إفراز جيل جديد من الضباط الأحرار، مثل ثورة عرابي 1882م، وثورة 1952م، ولا هو قادر على أن يقوم بنفسه كما فعل في ثورة 1919م ثم ثورة 2011م، وبين الاثنين حوالي قرن من الزمان. ويتساءل: ماذا عن ثورة المفكرين الأحرار التي بدأت بها معظم الثورات وعلى رأسها الثورة الفرنسية؛ فتحرير العقول سابق على المجتمعات، ولو تحررت المجتمعات دون العقول لعادت إلى استبدادها الأول وأظلمت العقول؛ فهل من ثورة يقودها المفكرون الأحرار؟ لذلك يشتد التعتيم على الفكر، ولجم اللسان، وتقييد اليد، ولكن لم يشق أحد على قلوبنا.
Halaman tidak diketahui