ونوع آخر من هذا النموذج ، طالب عانى الأمرين في الماجستير في الإشراف، وساعدته قدر الإمكان في إشرافي على الدكتوراه بعد أن كانت هناك محاولات لإيقاف مناقشتها إما بالحديث مع بعض أعضاء اللجنة للاعتذار أو مع السلطة الدينية «الفاتيكان» لبيان خطورة الرسالة أو مع إدارة الكلية، وكان هناك زميل يعاديه، ربما كان هناك في الذهن شخص آخر في نفس التخصص يراد تعيينه ولم يكتف بتعيينه لمدة سنتين، من خارج هيئة التدريس، وهي مسيحية أقدر على أن تقوم بتدريس الفلسفة المسيحية، ولم تنجح هذه المحاولات، واستطاع أن يناقش. وظننت أنه سيحفظ الجميل على الأقل حتى ألقى الله أو ربما يحافظ على ذكراي. وظننت أنني أستطيع أن أعتمد عليه كذراعي اليمنى، ظل هكذا عامين أو ثلاثة أعوام. ولما كلفته بالقيام ببحث في المؤتمر السنوي للجمعية الفلسفية المصرية عن مناهج البحث في العصر الوسيط وشرحت له ماذا أقصد بذلك «أومن كي تعقل» أو «أعقل كي تؤمن» وهو موضوع شهير للغاية خاصة عند أنسليم تكلم في معركة أوغسطين مع الدوناتيين الذين كانوا يودون الاستقلال بشمال أفريقيا عن روما، فانفعلت عليه علنا بأن هذا خارج الموضوع، فاعتبر التعليق إهانة! وبدأ ينسحب شيئا فشيئا مني حتى اختفى تماما. وعهدته أن يقبل اليد عندما يسلم علي مصادفة، ورأيته يقبل يد رئيس القسم ونهرته. ورأيت له كتابا في الفلسفة المسيحية مقررا على طلبة التعليم المفتوح. لم يشارك في أي معركة ثقافية في الفلسفة المسيحية أو أعد مشروعا فيها للدراسة والبحث.
وهناك زملاء سلبيون لا يهتمون إلا بمصالحهم، دروسا أو توزيع كتب أو الإشراف على رسائل أو التعليم المفتوح، عذرهم أنهم يسكنون خارج القاهرة. أحدهم علمه محدود لكن أخلاقه تبدو طيبة. ومنهم من يتخذ العلم سلما للإدارة؛ فالعلم يتوقف بعد الدكتوراه، ويبدأ البحث عن الإدارة في السلم الجامعي، ولا تتوقف الإدارة إلا عند الوزارة. وهو نموذج يتكرر في جميع الأقسام، العلم وسيلة، والمنصب غاية، يستحق التقدير في العلم، والحزن في السعي إلى الإدارة أو الحزن على فقدانها. العلم الهدف القريب، والمنصب الهدف البعيد. وما أسهل أن يقع الرجل في حب هذا النموذج إذا كان امرأة! ولا نكتفي بالمظاهر؛ فإننا لا ندخل قلوب الناس. إنهم نموذج من الأساتذة الذين يتركون غيرهم للقيام بدورهم في الظلم أو في العدل، ويتخلون عن أخذ المواقف، وكما يقال في المثل المصري «معاك معاك، عليهم عليهم» باهتون في اللون أو يتلونون، وأحيانا يكونون كالعقرب يلدغون من وراء ستار، بالرغم من مدح اللسان. ينشطون في تكوين الجبهات والمحاور من أجل إشعال النار، بالرغم من براءة الوجه وسماحة الكلام، وينضم إليهم جماعة من المظلومين بالرغم من تباين المواقف. لا يدافعون عن حقوقهم، ولا يقومون بمعاركهم، ويتركون غيرهم يقومون بها؛ فمن يتقدم ويعلي صوته دفاعا عن الحق غير من يتراجع ولا يسمع دفاعا عن الحق ضد المتخاذلين الذين يحبون غيرهم القيام بدورهم بدلا عنهم. لا يعني ذلك أن هؤلاء الزملاء لا فضائل لهم؛ فلكل إنسان فضيلته التي تتغلب على أهوائه وانفعالاته؛ فالإنسان ليس شيطانا ولا ملاكا، وإنما السؤال أي الجانبين يتغلب على الآخر حتى يمتلك الفضيلة. بالفضائل تبنى الحضارات والرذائل تنهدم. ولما كان الإنسان هو صانع الحضارة فإنه هو المسئول عن بنائها بفضائله وعن هدمها برذائله. ويمكن أن أقلب الصفحة فأجد الصور والنماذج الأخرى للفضائل، وما منعني من ذلك هو أنني أخشى أن أكون من المداحين، وما أكثرهم في عصرنا! بالرغم من قول الرسول: «احثوا التراب في أفواه المداحين.» وهناك قلة من الأساتذة يدافعون عن الحق، ويدينون الباطل، لا يؤخذ برأيهم مهما علت أصواتهم، وتكررت تهديداتهم، أصوات تضيع في الهواء مهما علت؛ فلا أحد يستمع إليها، وإذا استمعوا إليها فإنها تدخل من أذن وتخرج من الأذن الأخرى. لا تعرف كيف تكون الجبهات مع الصامتين، مع ما يسمى في السياسة «حزب الكنبة» الممتنعون عن التصويت بيديها، متباطئة أو بالخروج بسرعة من القاعة حتى لا يأتي عليهم الدور، فيصوتوا بنعم أو لا. سمعت مرة أن هناك صراعا بين رئيس مجلس القسم وأحد الأعضاء الأساتذة كان قد خسر الانتخابات أمامه عندما كانت الرئاسة والعمادة بالانتخاب، وينتظر أن تلحق به رئاسة الجامعة، حاولت الإصلاح بينهما قبل أن ينتهي التحقيق باعتباري أقدم الأساتذة وأطولهم عمرا، فأصر رئيس القسم على عدم التنازل عن التحقيق، وضرورة توقيع العقاب عليه. ولما ذكرته بآية
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ، واعتذر له الزميل عدة مرات فلم يقبل الاعتذار، ولما صدرت العقوبة عليه من الجامعة باللوم رفض الاعتراف، وأصر ألا يوزع عليه حقه في جدول التدريس، والكل وافقه باستثناء أستاذتان، فأحسست أنني في عصبة، ولست في مجلس قسم علمي، وأن الكل يريد أن يأخذ نصيبه من الميراث. وذكرني ذلك برواية «علي بابا والأربعين حرامي»؛ فشتان ما بين أحلامي والواقع المعاش. ولم أدخل القسم بعدها حتى لا أشارك في ألاعيب المدرسين مع ناظر المدرسة. وتعبت من سياسة المحاور في القسم؛ فلا أنا قادر على مواجهة العداء بالعداء، ولا أنا قادر على أن أعطي محور الصداقة ما يريد من تحقيق المصالح. وظللت قائما على ساقي حتى انتهت المدة مع سن المعاش. ولا يوجد معاش في الجامعة، بل يعين الأستاذ بعد الستين أستاذا متفرغا، له نفس الحقوق للأستاذ العامل إلا المناصب الإدارية. وبعد السبعين يعين أستاذا غير متفرغ كل سنتين مرة بطلب القسم يقوم بالإشراف على الرسائل، ثم ألغي الفرق بين الأستاذ المتفرغ وغير المتفرغ، وأصبح الكل متفرغا حتى ينتقل إلى رحاب الله. ولا أدري هل يجازونه الفرق بين المرتب والمعاش كما سمعت أم إنه من لا يعمل لا ينال كما قال أحد العمداء، وقد جاءني خبر الآن أنهم يفعلون. فلم أتعرف على أحد منهم، ولا هم حاولوا التعرف علي بالرغم من أن الطلبة والأساتذة الشبان يأتون إلي من أقاصي الأرض للتعرف علي. يعرفون طريقهم منذ البداية: اختيار أستاذ يختار لهم موضوعا مضمون النجاح فيه مع درجة الشرف الأولى في الدكتوراه، وممتاز في الماجستير، معي لا شيء مضمون في الدرجات إلا العلم، يهابونني قبل التعرف علي. لم تعد الإدارة الجامعية ولا طلبة الدراسات العليا يقرءون شيئا. (6)
الصداقة الهوجاء الانفعالية التي تضر أكثر ما تنفع، تقوم على التمركز على الذات. وهو عكس النموذج الأول، الغيرة والكراهية والعداوة العلنية، أحيانا ينفعل بصداقته لدرجة أنه قد ينقلب في يوم من الأيام إلى خصام دون عداوة، وقطيعة دون تواصل، مما يثير في الذهن المثل القائل: «عدو عاقل خير من صديق جاهل.» ولا مانع لديه من التقرب من الزميل الأعلى إداريا، يمدحه بقدرته على الكتابة بحيث لا يكون هناك فرق بينه وبين رجال الإعلام، يتعصب لرأيه، يصيح ويصرخ ويتشنج، لا يحاور لأنه لا يسمع الرأي الآخر، ولا يسمع إلا صوته، لا يعمل إلا تحت جناح أستاذ، فإذا توفي انتقل إلى غيره. كون ثلاثيا مع أستاذ غيور وأستاذة دون شخصية أو علم، حاولت أن تغطي هذا النقص بعد أن أصبحت في منصب إداري أعلى، وهي آخر رئيس بالانتخاب، نافقها كل الأعضاء طلبا للمصالح الخاصة للتدريس في التعليم المفتوح ومكافآت الجودة، حاول كل عضو أن يسيطر عليها بمن فيهم المدرسون، ولكنهم كتلة صماء في القسم. لم ينل من تحت الجناح الأخير إلا أقل الجوائز شأنا بتربيط مع أعضاء لجنة الفلسفة، وعندما رشح إلى جائزة أعلى لم ينل إلا صوتا واحدا. نادرا ما يتحقق هذا النموذج في شخصيات سوية، قادرة على الحوار، والأخذ والعطاء، تعاديه باقي النماذج لأنه لا يسير طبقا للمصالح الخاصة، ولا يحقق إلا المصالح العامة.
ومن هذا النموذج السادس من كان انفعاليا، يغضب بسرعة، كان يدي اليمنى في الجمعية الفلسفية بعد قطع يدي اليمنى الأولى، وأدى واجبه خير أداء بالنسبة لجمع الاشتراكات، والإشراف على الأعداد الأولى للمجلة، ثم غضب من أحد الأعضاء عندما كان يمزح معه وهو يدفع اشتراكه، فظن أن ذلك إهانة! وغادر الجمعية بلا رجعة. ومع ذلك أعتذر له إن كنت قد أخطأت في حقه حتى لا يحمل لي إلا المعروف وجميل الذكرى. (7)
الصداقة العاقلة التي تعرف عيوب النماذج السابقة وتحكم بالعقل الهادئ على ما ينفع وليس على ما يضر حرصا على المصلحة العامة، وهي صداقة مخلصة صريحة، تتفق معي في تحليل أحوال الجامعة وأحوال البلاد. كل منا يصرح بهمومه إلى الآخر، ويتحسر على الزمن القديم، زمن الأساتذة الكبار الذين تعلمنا على أيديهم قبل أن تتحول الجامعة إلى وسيط تجاري بين الطالب والأستاذ خاصة في التعليم المفتوح. تعترض على جامعة الكتب المقررة والملازم والتلقين والحفظ في مرحلة الليسانس، كما تعترض على النظام الأمريكي للدراسات العليا، نظام الساعات المعتمدة؛ فيكون هم الطالب هو تجميع أكبر قدر ممكن من
A ، ثم ينقل رسالته من الإنترنت ويتخرج حاملا الماجستير أو الدكتوراه يبحث عن عمل، ويتظاهر أمام دور الحكومة ليسمع صوته، كما تتحسر على النظام السياسي كله؛ فهذه الجامعة صورة منه. أتينا ومصر تقاوم الاستعمار والقصر والباشوات، ونغادر الآن ومصر ترزح تحت عبء التدخل الخارجي والانهيار الداخلي، وترك مركزها للخليج وإسرائيل؛ فقد تحول الصديق إلى عدو، والعدو إلى صديق. وما زالت تشعر بغربة في الجامعة واغتراب في الوطن.
وأما المعيدون الجدد فمنهم من يحتمي بالأستاذ المشرف الذي يساعده على فرض الحماية طبقا للسلوك الشعبي في حماية النبوت لأنصاره كما هو الحال في الحرافيش «التوت والنبوت» لنجيب محفوظ. ومنهم من يظل صامتا حتى يدرس الموقف ويعرف من أين يؤكل الكتف، يفرض عليه موضوع الماجستير والدكتوراه، فلا يعيش المعيد تجربة الاختيار، ولا معاناة البحث العلمي، فيتخرج شخصية باهتة، وعلمه منقول من الإنترنت، والموضوعات المنقولة من الغرب مثل «الفلسفة والبيئة» في مجتمع لا يعرف كيف يجمع القمامة، و«فلسفة المرأة» لأن الغرب يتكلم عن النسوية
feminism
في مجتمع يضرب الرجل فيه المرأة ويطلقها باللسان دون أن نتعرض إلى وضعها في التراث كنصف شاهدة، وربع زوجة، وسبية في نكاح الجهاد. ومنهم من يظهر علمه وهو طالب، ويحضر دروس الدراسات العليا وهو ما زال في الثالثة أو الرابعة ليبين علمه، وما إن يتخرج ويعين معيدا حتى يختفي. ومنهم من يبحث بجهده الخاص على منحة للسفر واستكمال الدراسات العليا بالخارج، وما إن يسافر حتى يقاطع الأساتذة، وقلما يعود، يتكبر ويستعلي، رأسا برأس. وأعتذر لهذا الجيل الجديد كله الذي لم يتعود بعد على سلوك الجيل القديم، وأهمية النقد الذاتي.
Halaman tidak diketahui