فلم أجرؤ الاقتراب منه أو طلبه لأنه أغلى ثمنا. وكان المقهى مكانا للتعارف بين الدارسين للصداقات الوقتية أو الدائمة مثل مطاعم الجامعة.
وبالنسبة للرسالة الثانية كتبت خطة تقارن بين الدين العقلي والدين الوجودي عند كانط وكيركجارد، ثم أتينا مع بول ريكير فيما بعد أن فكري أشبه بظاهريات التأويل وتأويل الظاهريات، فسجلت الرسالة الثانية بعنوان «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل». ولما قرأ دي جاندياك
De Gandillac
الخطتين قال إنه متخصص في فلسفة العصر الوسيط، ورفض أن يكون الإسلام جزءا منه لأن له مساره التاريخي الخاص. وتكونت لجنة المناقشة من مستشرقين؛ لاوست الإصلاحي، وبرونشفيج الفقيه، وفيلسوفين غربيين؛ بول ريكر الظاهرياتي، وجان جيتون البرجسوني، ورئيس اللجنة دي جاندياك الذي يجمع بين الفلسفة والاستشراق. وهددهم جيتون إن لم يناقشوني كفيلسوف ويحاورونني كمفكر وليس كمؤرخ فسيغادر اللجنة، فاقتنعوا ولم يجرؤ أحد على أن يقول لي هذا ناقص أو ذاك زائد. واستمرت المناقشة من الواحدة حتى السابعة مساء مع نصف ساعة استراحة بين الرسالة الأولى والرسالة الثانية. وأقام مركز ريشيليو
Centre Richelieu
في ميدان السوربون، وهو مركز ثقافي كاثوليكي، حفل استقبال للأساتذة المناقشين الخمسة والطلاب. وحضر إتين جيلسون مؤرخ فلسفة العصر الوسيط الشهير، وكان تقليديا محافظا مثل أستاذنا جان جيتون ؛ فالحقيقة لديه في العصر الوسيط. كل ما قاله العصر الحديث بالنسبة للمسيحية انحراف عن توما الأكويني، وهو الحق ودونه الباطل. وأنا على العكس، ما قاله العصر الوسيط عن المسيحية اجتهادات للقضاء على اغتراب المسيحية في العصر الوسيط. لم يبتسم ولم يجلس حتى النهاية؛ فالجو ليس جوه، والعالم ليس عالمه. بدأت مناقشة الرسالة الأولى «مناهج التأويل في علم أصول الفقه»؛ بدأها لاوست بإبراز معلوماته عن الحركة الإصلاحية ثم برنشفيج المشرف بإبراز معلوماته في الفقه، ثم عقدت الاستراحة والحضور يصيحون عجبا، ولا تقدم مشروبات أو مرطبات للحضور أو للمنصة أو توضع الورود كما هو الحال في مصر، ثم بدأت مناقشة الرسالة الثانية «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل» ناقشها ريكير بهدوئه وعلمه ودقته في اختيار المصطلحات، ودي جاندياك رئيس اللجنة بين الحين والآخر يعلق على ما يسمع، ثم انسحبت اللجنة كالعادة وعادت لتعلن حصولي على دكتوراه الدولة
Tres Honorable Doctorat d’Etat
وهي أعلى تقدير. وقالت إن هذه رسالة بمعنى الكلمة؛ أي تحمل قضية مثل رسالة الأنبياء.
كنت أريد تسجيل المناقشة منذ البداية وأحضرت جهاز التسجيل للقسم في ذلك الوقت، فمنع رئيس اللجنة التسجيل لأن هذا ضد قواعد المناقشة، فرجوته أن يتركه للذكرى ففعل. وتوقف التسجيل في منتصف المناقشة فأغلقه الصديق رشدي راشد، فأعدت تشغيله، راجيا رئيس اللجنة أن يتركه للذكرى، وما زال عندي في مكتبتي الضخمة، يجده من يبحث عنه من الجيل الجديد. وتم الاحتفال بالدرجة العلمية، وأفرغت الزجاجات. وكانت السوربون قررت لأول مرة أن تطبع رسائل دكتوراه الدولة (الرسالة الأولى) قبل مناقشتها، والدولة الفرنسية تساعد الطالب الفرنسي على طباعتها، أما الأجانب فتعاونه فرنسا في إحدى دور النشر؛ المطابع الجامعية الفرنسية. وكتبت إلى المجلس الأعلى للثقافة في ذلك الوقت برئاسة يوسف السباعي، فوافق على طباعة الرسالة الأولى في المطابع الفرنسية الأميرية، وأرسل لي زوج أختي الكبرى سيد حامد مائة نسخة بحرا كما طلبت السوربون قبل المناقشة، وقد كان القائم بأعمال الأسرة كلها. وكتب لها برونشفيج مقدمة يقارنني بالفاروقي، وكانت هذه أول مرة أسمع عنه قبل أن أقابله في مصر أولا مدعوا إلى قسم اللغات الشرقية عام 1970م، ثم بالولايات المتحدة حيث عشت أربع سنوات معه. ثم طبعت أنا الرسالة الثانية بالفرنسية في مصر بعد العودة في الأنجلو المصرية «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل» في جزأين، ومهداة إلى بول ريكير مثال الأستاذ العقلاني المتأمل الهادئ،
1
Halaman tidak diketahui