أما علاقتي بالعالم، فمنذ صغرى وأنا أحاول اكتشاف ما حولي في الحارة والدرب والعطفة؛ أدور حول العطفة حيث كان آخرها من جهة اليمين ميدانا مسدودا، وآخرها من جهة اليسار من بعيد يبدو ميدانا آخر مفتوحا على نهاية الطريق.
كانت البيوت الداخلية المطلة على الدرب في ألوان واجهاتها نظيفة، وراقية بسكانها، أما مدخل العطفة الذي كان به الفرن، والفران جالسا على مكتبه، تأتيه عربة القمامة يوميا لتمده بما يحتاجه لإشعال الفرن وتسوية الخبز.
وكان الفتوات يجلسون على باب المنازل تتصاعد أصواتهم بلا حدود، وكأنهم يستعدون لمنافسة على المصارعة، وأحيانا يخرجون من درب الشرفا لمصارعة فتوات الحسينية أو العطوف، ويرجعون إلى الدرب مضرجين بالدماء وهم يتوعدون الخصوم بالنيل منهم قريبا، ينادون بالانتصار عليهم. وأحيانا أخرى يأتي فتوات الحسينية أو العطوف للهجوم على الدرب فيتصدى لهم الفتوات فيقع من يقع، وأنا أشاهد ذلك من النافذة وأتساءل: لماذا ما يحدث؟ هل هم أعداء أم أصدقاء؟ وكنت أسير في شارع المعز لدين الله والذي يخرج من باب الفتوح متجها لسوق الليمون والزيتون حتى أصل الجمالية والصاغة وشارع الأزهر، وأرى سور صلاح الدين وهو يمتد حول القاهرة القديمة بأبراجه للدفاع عنها، وأحيانا أسير إلى باب النصر المجاور لباب الفتوح، وكان أقل ازدحاما، وتظهر بعده المقابر، وعلى يساره معامل صناعة حلوى المولد النبوي؛ العرائس والأحصنة الملونة. ويمتد شارع الحسينية المزدحم حتى ميدان عبده باشا.
فلما كبرنا قليلا ذهبنا إلى ميدان الظاهر، ودخلنا جامع الظاهر بيبرس حيث الآثار الإسلامية المتناثرة حوله، فإذا ما سرنا في شارع الفجالة وجدنا ميدانا به قصر المرعشلى المهجور، وكنا نتساءل: لماذا لا يستخدم هذا القصر الأثري المملوكي كمتحف يزوره الناس؟
وأول مرة أزور فيها الإسكندرية وأنا طالب في الثانوي لاستقبال النحاس باشا على رصيف الميناء، ثم أعود للقاهرة في نفس اليوم، وكان القطار مجانا لأننا طلبة ثوار، ورأيت أمواج البحر وهي تصعد إلى السماء، وينطبق عليها عند الأفق البعيد. وكنت أعود لأزور قصر النحاس باشا في ميدان الدوبارة أهنئه بسلامة الوصول، ويبدو أنه تضايق من كثرة الوفود التي تأتي مهنئة، فسمعته مرة يقول من شرفة القصر: «ارجعوا إلى بيوتكم.» فحزنت؛ لأنه كان بطلا شعبيا بالنسبة لي يقف ضد الإنجليز.
وفى المرة الثانية لاكتشافي مصر، كانت رحلة مدرسية قيمة الاشتراك بها خمسون قرشا، ذهبت لزيارة الأقصر وأسوان، وزيارة معابدها الفرعونية. حضرنا عروض الصوت والضوء، وأعجبنا بهذه الآثار القديمة والمعابد والأعمدة التي شيدها المصريون القدماء.
وكان هناك زيارات قصيرة لا تزيد على فصل دراسي واحد لكل من جامعات فرانكفورت وبريمن في ألمانيا، والخرطوم في السودان، وكيب تاون في جنوب أفريقيا.
كنت أعرف الشخصية الألمانية، وازدادت معرفتي بعد هذه الزيارات بالشخصية السودانية وطرقها الصوفية، أما في جنوب أفريقيا فقد تعلمت الرقص الأفريقي الإيقاعي؛ يرقصون فرحا بالتحرر الوطني، ويصدرون أصواتا أثناء الرقص تخيف الرجل الأبيض، وكان معي زملاء أفريقيون من أصول هندية أو ماليزية، وكانوا من أنصار «لاهوت التحرير» مثل: عبد الله موسى، وعبد القادر الطيب، والحاج عمر، وفريد إسحاق. وكان ينظر إليهم على أنهم مسلمون يغردون خارج السرب، يتفقون معهم في الغاية، وهي تحرر جنوب أفريقيا من الحكم العنصري، ويختلفون في الوسيلة مع أغلبية المسلمين الأمريكيين الأفارقة؛ يختلفون لأن الزملاء ينتسبون إلى اليسار الإسلامي بينما تنتسب الغالبية الأمريكية الأفريقية لليمين الإسلامي وهم أنصار «القوة السوداء» و«المسلمون السود» والذين لا يتورعون عن ممارسة العنف. يركز الفريق الأول على النضال السياسي، بينما يركز الفريق الثاني على الهوية الإسلامية، يركز الفريق الأول على المعاملات، بينما يركز الفريق الثاني على العبادات؛ فالعبادات تعطى الهوية الإسلامية. غادر عبد الله موسى جنوب أفريقيا، بعد محاولة الاعتداء عليه، إلى الولايات المتحدة الأمريكية بينما بقي الآخرون، والحاج عمر يركز على العبادات فهو إمام مسجد. أما عبد القادر الطيب وفريد إسحاق فهما مثقفان مستنيران، كان الفكر الإسلامي لديهما له الأولوية على العبادات.
وقد زرت في مدة أقل لحضور مؤتمرات كثيرا من الجامعات في ألمانيا مثل: دوسلدورف وبون وكولونيا وهامبورج وهايدلبرج ومالبورج. كما زرت جامعات أوروبية أخرى لفترة قصيرة في كامبريدج وأكسفورد ووارسو وقرطبة وفيينا وموسكو.
وقد كون هانز كينج جماعة للحوار الديني برئاسة رئيس جمهورية ألمانيا السابق هيلمولت شميت، وكنت عضوا فيها، وجاءت الجماعة إلى مصر لعرض نشاطها على الرئيس المصري، فلما وجدت الرئاسة اسمي ضمن المجموعة شطبت اسمي من الدعوة للعشاء مع أعضاء المجموعة، فلما سألوهم عني، ولماذا لا أحضر معهم، لا أدري بماذا أجابوا!
Halaman tidak diketahui