ثم دعيت في إحدى إفطارات رمضان بعد الثورة وقبل الانتخابات الأولى، وبعد الإفطار ألقى كبيرهم خطبة لم يذكر فيها التوريث الذي كان على قدم وساق. فسألته: «أين موضوع التوريث؟» فقال لي: «اسكت يا حسن.» وكان قد تعرف علي عندما كنت عضوا في جماعة الإخوان في شعبة باب الشعرية عند مرحلة الانتقال من الثانوية العامة إلى الجامعة، وسألت نفسي: «هل تم اتفاق بين الرئيس المتطلع للرئاسة بعد أبيه والإخوان على تدعيمه من قبل الإخوان؟» فحزنت لدخول الإخوان في صفقة سياسية لا يرضاها الشعب.
وفي لقاء مع الرئيس الإخواني وبعد نجاحه في الانتخابات في القصر الجمهوري سأل عني وكنت أعرفه من قبل والتقيته في جلسات الحوار الديني وعلاقتها بالغرب فوقفت. فخاطبني قائلا: «يقولون عنك إنك شيوعي.» فأجبت: «وماذا كان أبو ذر الغفاري؟» فأجاب أحد الحاضرين من الفنانين: «كان شيوعي.» فضحك المثقفون والفنانون المدعوون للحوار معه. فقلت له: أنا مثل الأفغاني مفجر الثورة العرابية، وصاحب الكلمة التي ألقاها أحمد عرابي في وجه الخديوي توفيق في قصر عابدين «إن الله خلقنا أحرارا ، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا. والله لا نستعبد بعد اليوم.» وهو الذي كرر عبارة ابن حزم «الأرض لمن يفلحها». وهو القائل: «عجبت لك أيها الفلاح! تشق الأرض بفأسك، ولا تشق قلب ظالمك.» وقالت إحدى الفنانات: «ألا تقدمون لنا شيئا نأكله؟» فحزنت. فالنقاش الفكري مع رئيس الدولة أولى من ضياع الوقت في تناول الطعام.
وفي الصدام بين الإخوان والدولة بعد ذلك، وخوف الدولة من سيطرة الإخوان على القطاعين؛ الصناعي والتجاري، أغلقت مصانع الشريف الإخواني وغيره من مشايخ أصحاب رءوس الأموال الإخوانيين بعد أن استطاعوا تجميع رءوس الأموال من مصر وإغراء المصريين بكسب نسب عالية من عائد المشاريع تصل إلى عشرين في المائة، وأغلقت محال التجارة والبقالة الإخوانية بعد أن كانت قد اشتهرت بين الناس باستثناء محلات «نور على نور»؛ محل التجارة الكبير وفروعه المختلفة. كما أغلقت المستشفيات والعيادات الإخوانية الملحقة بالمساجد، والمدارس التعليمية لحل مشكلة تكديس الفصول، وبعد أن نجح الإخوان في إقامة دروس تقوية جماعية رخيصة الثمن بدلا من الدروس الخصوصية الباهظة التكاليف، وانتهيت إلى النتيجة القائلة: «يا ليت الإخوان ركزوا على الخدمات الاجتماعية للشعب، واستحوذوا على قلوب الناس، وحلوا مشكلاتهم بدلا من الاصطدام بالسلطة العسكرية.» فالسلطة في العقول وليست في القصور.
كنت أود أن أبقى عضوا في جماعة الإخوان، أكون تيارا يساريا فيها، ولكن الجماعة كانت محافظة أشد المحافظة، ولا تقبل فيها حتى الليبراليين، لا ترضى عن أي معارضة لمكتب الإرشاد.
وجاءني مرة خطاب من حزب شيوعي يطلبون مني رئاسة هذا الحزب، فلم أرد؛ لأنني لست حزبيا، ولست شيوعيا، وأوجه كل طاقاتي إلى تربية جيل جديد في الجامعة يعرف كيف يفكر، ويبحث، ويؤلف بين التيارات المتناقضة لصالح الوطن. وهو الأتون الذي تنصهر فيه كل الأيديولوجيات؛ إسلامية كانت أم ماركسية، سلفية كانت أم علمانية، محافظة كانت أم تقدمية.
الفصل السابع
العلم والعالم
منذ اكتشاف المواهب الثلاث وأنا في المدرسة الثانوية، ثم سفري إلى فرنسا تراجعت موهبة الرسم وبقيت موهبتا الفلسفة والموسيقى، أي العلم والفن، وكنت أشعر وأنا بالجامعة أن هناك أفكارا في رأسي يجب متابعتها ومعرفتها وتحويلها إلى علم دقيق، وكانت تأتيني في الأحلام؛ لذلك كنت أضع قلما وورقة بجواري لأكتب الحلم لعله يفيدني في يوم من الأيام وأنا أستكمل الدارسة في الجامعة وما بعدها، وكانت أهم الألفاظ المتكررة: الفكر، الواقع، الوعي، والشعور، العواطف والانفعالات، الدنيا والآخرة، الله والعالم، الخير والشر، الجبر والاختيار، اليأس والأمل. وملأت العديد من الأوراق بتواريخها حتى امتلأت حقيبة بأكملها عند السفر إلى فرنسا. وبالفعل أخذتها معي، خاصة وأن ليس عندي ملابس أو كتب باستثناء كتب السنة الخمسة التي وفرها لي أخي، والقرآن الكريم بطبيعة الحال.
وفي باريس كنت أنتقل بها من منزل لآخر حتى استقر بي المقام في المنزل الألماني بالمدينة الجامعية، وضعتها في غرفة الحقائب. ولما بدأت في كتابة خطة الرسالة بعنوان «المنهاج الإسلامي العام»، وكانت الخريطة تتكون من جانبين: جانب ساكن وآخر متحرك؛ الساكن يتضمن التصور والنظام، والمتحرك يتضمن الطاقة والحركة، قدمت لخطة الرسالة بحديث عن الحركات الإصلاحية وربما أكون أحد ممثليها، بل وخاتمها. قدمتها للأستاذ هنري لاوست أحد المستشرقين المعروفين بتخصصه في الحركات الإصلاحية منذ ابن تيمية، فأعجب من هذه الخطة وقال: الجزء الأول منها الذي يتكلم عن الحركة الإصلاحية جيد بالرغم مما ينقصه من بعض ممثليها، أما القسم الثاني، وهو فلسفتي الخاصة عن التصور والنظام والطاقة والحركة، فهو أقرب إلى الفلسفة العامة ولا يدخل في نطاق الاستشراق الذي يدخل فيه الجزء الأول.
فذهبت إلى أحد الفلاسفة وهو «بول ريكور» وقدمت له الخطة وقرأها بعناية قائلا: «الجزء التاريخي الأول معلومات مفيدة لمن لا يعرف الحركة الإصلاحية، والجزء الثاني أقرب إلى برجسون، فلماذا لا تدرس برجسون وتعرف فلسفته في هذه الموضوعات الأربعة وتطورها وتنتهي إلى فلسفتك الخاصة؟» وقرأها مستشرق آخر وهو عميد المستشرقين في باريس وهو لويس ماسينيون وقال: «هل درست علم أصول الفقه؟» قلت: «لا.» قال: «إن وضع منهاج إسلامي عام جدير بالاهتمام، فلماذا لا تربط ذلك المنهاج المقترح بمناهج علم أصول الفقه وتطوره حتى تنتهي إلى منهجك الخاص؟ ألم ينبه مصطفى عبد الرازق إلى أهمية علم أصول الفقه بأنه أهم العلوم الإسلامية؟ فلماذا لا تأتي عندي كل يوم وتقرأ في علم أصول الفقه؟» وأنزل لي كتاب «المستصفى في أصول الفقه» للغزالي من مكتبته الخاصة، و«المقاصد في أصول الشريعة» للشاطبي، طلب أن أقدم إليه كل يوم صباحا من التاسعة حتى الثانية عشر، وكان اكتشافا بالنسبة لي.
Halaman tidak diketahui