جاءت ذات مسرعة من المطبخ على الصوت، ووقفت مبهوتة أمام المنظر الذي طالعها، وكان عبد المجيد قد هرب من الموقف إلى البلكونة وقد اشتعل غضبه؛ على سنجر لأنها وقعت، وعلى نفسه لأنه لم يتوخ الحذر، وعلى ذات لأنها السبب في الأمر كله.
تقدمت ذات من الماكينة وانحنت فوقها تتلمس ما أصابها، ثم ارتمت على المقعد، وانفجرت بالبكاء.
لم تصب الماكينة بأذى، فيما عدا طيران الغطاء البلاستيكي الصغير لمخزن الإبر والخيوط، وتناثره أشلاء فوق الأرض. هل يكفي هذا لتنشيط الغدد الدمعية لدى شخص حساس مثل ذات؟ بالطبع، ولا يمنع أيضا من وجود أسباب أخرى.
على عكس زوجها، لم تكن لمحركات الشهوة علاقة مباشرة بالأمر، بفضل انتظام الزيارات الليلية وتزايد عددها في الآونة الأخيرة، فذات كان لديها محركات من نوع آخر.
فتكنيك «المشاركة بالمادة المصنوعة» الذي التجأت إليه في تعاملها مع ماكينات الأرشيف، وحقق نجاحا لا بأس به في البداية، فقد فاعليته بمرور الوقت؛ ذلك أنه كان بطبيعته محدودا، لا يسمح بكثير من التجديد والابتكار، كما أن الماكينات الشرهة، التي لا تتوقف فتحاتها عن الحركة بثا ومضغا وابتلاعا، لم تستطع صبرا على طريقة ذات في البث، فعندما شعرت هذه بأن الفرص المتاحة لها في انكماش مستمر، أخذت تتعمد الإطالة بقدر ما تستطيع، عن طريق المقدمات المستفيضة، وألوان التشويق الأخرى التي تعلمتها من المسلسلات التليفزيونية العربية. وبالإضافة إلى هذا، كانت ذات عاجزة، بطبيعة الحال، عن المساهمة في الموضوعات المفضلة لدى الماكينات؛ وهي مشاكل السيارات، والفروق الدقيقة بين أكثر من أربعين نوعا منها تجري في شوارع القاهرة، والسرمكة والمدارس الأجنبية وأسواق الخليج (الحرة وغير الحرة)، وعقود العمل في الخارج، وشرائط الفيديو، إلخ. هكذا تدحرجت بالتدريج من خطوط البث إلى خطوط التلقي.
وبالتدريج أيضا بدأت توقن أن الماكينات تتجاهلها عن عمد، فتتجنب توجيه تحية الصباح إليها، وتتناسى دعوتها إلى الشاي المشترك، وتتغافل عن أخذ رأيها في أمور العمل. ولم تلبث أن وصلت إلى قناعة محددة بوجود مقاطعة منظمة ضدها. لماذا؟
ظنت في البداية أن السبب هو جمال عبد الناصر، فكفت عن الإشارة إليه في أحاديثها (وإن كانت لم تتمكن من وقف زياراته)، وأعادت شرائط عبد الحليم حافظ إلى منزلها (وكانت قد اشترت أغانيه الوطنية، المرتبطة بذكريات طفولتها، عندما سمح بتداولها إثر مقتل السادات بعد أن كانت ممنوعة في عهده، وأحضرتها إلى الأرشيف لتتسلى بالاستماع إليها على مسجلة وجه الأرنب، ولتجعل منها ومن الذكريات المرتبطة بها موضوعا للبث)، بل وأخفتها في ركن قصي من خزانة الملابس بعيدا عن متناول ابنتيها، اللتين ما كانتا تحفلان بمثل هذه الأغاني البالية على أية حال، لكن المقاطعة لم تتوقف.
وفي أحد الأيام انضمت إليهن زميلة جديدة تدعى نادية، ضئيلة الحجم، ضامرة، منطوية على نفسها وخجولة، بدا كأنها جاءت مطرودة من قسم آخر مثل ذات، فتعاطفت معها، وأخذت على عاتقها تعريفها بواجباتها غير الواضحة، واندفعت في هذه المهمة بحماس، وقد وجدت فيها متلقيا صاغرا صابرا لإعادة من شرائط البث القديمة ففاتها أن تلحظ المقاطعة الفعلية التي تعرضت لها صديقتها الجديدة. واكتشفت الأمر عندما تغيبت نادية مرة، فأرادت أن توقع باسمها في دفتر الحضور، كما جرت العادة التضامنية بين العاملين، وإذا بوجه الأرنب تنفجر فيها وقد ارتفع حاجباها المزججان: «مبقاش إلا المسيحية دي كمان نمضيلها!»
ذات الطيبة السمحة كانت ابنة مخلصة لثورة جمال عبد الناصر، تربت على أن البشر متساوون، لا يفرقهم دين أو جنس أو مال أو جاه أو منصب؛ لهذا فاتها أن تتقصى لقب نادية لتتعرف على هويتها، وهو الأمر الذي لم تغفله الماكينات اليقظة. ولكي تكفر عن خطئها أقبلت تراجع قناعاتها، وتستعيد في ذهنها صور المسيحيين الذين عرفتهم؛ أشكالهم الخارجية، ملابسهم، لهجتهم، أنواع أكلهم وشرابهم، تصرفاتهم؛ بحثا عن سر هذا الإجماع الغريب ضدهم. لم تجد غير وشم أخضر برسم الصليب في باطن الرسغ الأيسر لنادية، وصليب ذهبي يتأرجح بين ثديي إحدى المحررات، وتمثال برونزي للعذراء يستخدمه أمينوفيس في حماية أوراق موسوعته، لكنها كانت جبانة، فكفت عن زيارة أمينوفيس في مكتبه، وقاطعت نادية.
لم تتقبل الماكينات، فيما يبدو، القربان المسيحي، واستولى القنوط على ذات عندما فشلت في إدراك سر الاضطهاد الذي تتعرض له، وضاعف من يأسها أن المقاطعة لم يكن لها منطق؛ فقد كانت تخف أحيانا وتتلاشى كما حدث أثناء الصعود الظافر لألواح السيراميك فوق جدران مطبخها، وعندما نجحت دعاء في امتحان الإعدادية، وفي أحيان أخرى تشتد وتتعاظم. عندما توقفت السرمكة قبل بلوغ السقف، وعندما رسبت ابتهال في الابتدائية، وإثر التحاق سميحة بالمسيرة، وحصولها على الفيديو، وعقب أن ثبت موظف الزراعة الإنتركوم على باب شقته، وأضاف مدرس الكويت جهاز تكييف جديد إلى مجموعته، واستبدل ضابط الجيش سيارته ال 131 القديمة بواحدة مازدا على الصفر، وفي كل يوم تتخلص فيه مدام سهير، ساكنة الشقة المفروشة، من علب الكباب والجاتوه الضخمة. باختصار، كانت هناك علاقة خفية بين اشتداد المقاطعة ونوبات البكاء التي تنتابها.
Halaman tidak diketahui