ومع ذلك توطدت العلاقة بين الرجلين - رغم فارق السن الذي يبلغ عقدا ونصف عقد - بحكم الاتفاق في المشارب والاهتمامات؛ فإذا كانت الظروف لم تسمح لعبد المجيد - كما سمحت لذات - بالتملي من كامل بهاء الفخذين اللذين يحوزهما الشنقيطي، فإن القليل الذي لمحه عبد المجيد منهما في المناسبات المختلفة (وخاصة الفترة التي قضاها راقدا على ظهره بعد أن كسرت ساقه عندما انزلق فوق أرضية المطبخ المسرمكة)، كان كافيا لإثارة اهتمام تغذى على أجنحة الخيال (وهو أمر لم يغب عن فطنة ذات وأثار لديها مشاعر مختلطة يمكن تسميتها بالغيرة المركبة أو المتعددة الأطراف، أو باستخدام المصطلحات الدقيقة: الغيرة عبر الأطراف).
إلى جانب ذلك، كان الاتفاق تاما بين الرجلين فيما يتعلق بالأمور العامة؛ فقد رحبا سويا بالسلام وكامب ديفيد، واشتركا في توجيه اللعنات إلى الاشتراكية وعبد الناصر والعروبة وفلسطين والسوفييت، وفي الشكوى من الأسعار والمدارس والمواصلات، وفي استعراض سلبيات مشاريع الدواجن والتاكسي، وفي تقديم الحلول الناجحة لمسابقات الفوازير، وفي عدم الفوز بجوائزها.
الرغبة في مد الجسور ودعمها دفعتهما إلى التدرج في فنون المسامرة. وكانت المبادأة من نصيب الشنقيطي الذي قضى خدمته العسكرية في التدرب على إقامة الكباري، فبادر عبد المجيد ذات مساء بكلمة السر المصرية الصميمة: «سمعت آخر نكتة؟» أجاب عبد المجيد في اهتمام مصطنع: «لا. إيه؟» قال الشنقيطي في أناة مكنته من تذكر التفاصيل التي تدرب طول اليوم على حفظها وإلقائها: «واحد كان يشرب خمرا فسأله صديقه لماذا تشرب؟ أجاب: لكي أنسى. سأله: تنسى إيه؟ فكر الآخر قليلا، ثم قال: مش فاكر.»
انفجر عبد المجيد ضاحكا وعاد في اليوم التالي من البنك بكلمة سر مماثلة: «واحد اسمه حمار زهق من اسمه فغيره، وذهب إلى صديق له سعيدا: مش أنا غيرت اسمي؟ قال الصديق: مبروك. خليته إيه؟ أجاب : سمكة. سأله الصديق مستغربا: تعرف تعوم؟ قال: لا . قال الصديق: تبقى حمار.»
انفجر الشنقيطي ضاحكا، بل وضرب فخذيه براحتيه، مفتتحا فترة من ضرب الأفخاذ لم تستمر طويلا؛ إذ سرعان ما نضب المعين الذي نهلا منه؛ فالتقدم التكنولوجي الذي حققه المصريون أدى إلى تراجع قدراتهم الإبداعية في المجال الوحيد الذي تميزوا به تاريخيا على سائر الأمم، وقل عطاؤهم بالتدريج كما وكيفا، إلى أن استنفدوا تيماته المحدودة؛ السياسية (البقرة الضاحكة)، والطائفية (الصعايدة).
الزوجتان الراغبتان في الانفراد للبت في أمور بالغة الخصوصية، أجبرتا الرجلين على تطوير ماكينتيهما، ومرة أخرى كانت المبادأة من نصيب الشنقيطي الذي لم يجد من سبيل لملء الثغرات في بثه - دون التطرق إلى حياته السابقة في ميت غمر - إلا بالاغتراف من تاريخه العسكري: «(بأسى) بدلا من سنة التجنيد المألوفة وقعت في حرب الاستنزاف. سبع سنوات ضاعت من حياتي في خنادق القناة من منتصف 1967 - بعد الهزيمة مباشرة حتى أكتوبر 1974 - بعد النصر مباشرة. (بحماس) عندما حلت ساعة الصفر يوم 6 أكتوبر كنا قد أصبحنا مثل الياي المضغوط المنكمش المستعد تماما للامتداد. الكل متحفز. الجميع متفائلون؛ فلأول مرة نأخذ المبادأة بعد تدريب وإعداد، وفي الساعة الثانية ودقيقتين، قبل ساعة الصفر ب 18 دقيقة، مرت من فوق رءوسنا أربع طائرات ميج 21 منخفضة جدا، فوق الأرض تقريبا، عبرت القناة نحو الشرق، ودوت صيحتنا فوق القناة كلها: الله أكبر. بعد كده هدرت المدفعية، وبدأ نفخ القوارب وإعداد الكباري. بعد ساعة واحدة كنا على الضفة الشرقية، وبعد خمس ساعات كنا حطمنا خط بارليف الشهير الذي تكلف مليارين دولار، واعتبره الإسرائيليون خطا أبديا. (ضاحكا) فاجأنا إسرائيل من غير كيلوت زي ما قالوا. (باعتزاز) المهندسون كانوا عصب كل شيء؛ فك الكباري وتركيبها، فتح الثغرات في حقول الألغام وفي السواتر الترابية، فتحنا 44 ثغرة في الساتر الترابي الهائل لخط بارليف.»
لم يلتقط الشنقيطي النكتة التي حاول عبد المجيد صياغتها، مجربا قدرته الإبداعية لأول مرة، عندما أشار إلى ثغرة الدفرسوار باعتبارها إحدى الثغرات التي ساهم الشنقيطي في فتحها، غير أنه وجد فيها فرصة لنكتة من طراز آخر: «القائد المسئول كان سليط اللسان ، وكانت عنده خطة لإغلاق الثغرة، لكن قائده الأعلى الذي كان يتميز بمؤخرة ضخمة للغاية رفضها، فصاح به الأول في التليفون بصوت سمعه الجميع: أظن ناوي تقفلها بطيزك؟» (ها نحن قد قلناها).
تلمس عبد المجيد طريقه إلى نكتة أخرى: «والملائكة؟ شفتها؟ كانت تقاتل معكم في لباس أبيض؟»
هز الشنقيطي رأسه نفيا (فلم يكن قد وقع بعد في براثن الشيخ سلامة): «لم نكن في حاجة إليها. كان الجنود يهاجمون دبابات العدو بأيديهم وأجسامهم. هل تذكر عبد العاطي وبيومي؟ في يوم واحد أصاب كل منهما 11 دبابة. هل تذكر سعيد خطاب الذي تطوع ليوقف تقدم دبابات العدو فألقى بنفسه أمامها ومعه أربعة ألغام، ونجح في تعطيلها باللغم الذي انفجر في جسمه والدبابة؟ واحد آخر رأيته بنفسي .. عريف اسمه السيد الشحات، وغيره، وغيره. (بانفعال) كان هجومنا صاعقا حطم أسطورة التفوق الإسرائيلي. رأيت بعيني الدبابات الإسرائيلية تدور حول بعضها في فوضى وتصطدم ببعضها البعض، ورأيت جنودهم يجرون أمامنا في رعب، ورأيت هجماتهم تتحطم وترتد حاسرة. (بأسى) كان بإمكاننا أن نلحق بهم هزيمة ساحقة تهدد وجودهم في الأساس. (برصانة) لكن أمريكا أنجدتهم، زودتهم بالطائرات والدبابات والصواريخ والقنابل التليفزيونية والمنزلقة ومعدات التدخل الإلكتروني وصور الأقمار الصناعية.»
كشفت المسامرة العسكرية عن وجه آخر من أوجه التقارب بين الرجلين، هو فهمهما الواقعي لحقائق الحياة، وما يتحليان به من تسامح وسعة في الصدر والأفق (فضلا عن أماكن أخرى). تجليا عندما جاء ذكر الولايات المتحدة، وكان من الممكن لعلاقتهما أن تزداد تعمقا لو أسعفتهما اللغة الإنجليزية؛ فقد حصل الشنقيطي من مضيف جوي في مصر للطيران (خط نيويورك) على كتاب بهذه اللغة، تضمن رسوما أجرت الدماء في عروقه، لا بسبب ما اتسمت به من إباحية، وإنما لأنها صورت رجلا يضرب معشوقته العارية بالسياط في أماكن مختلفة من جسدها.
Halaman tidak diketahui