اقتصرت العلاقة بين سكان الشقتين المتجاورتين على تحية اللقاء على السلم؛ فأوجه الاتصال اليومي المألوفة التي يتم فيها تبادل رغيف خبز ببصلة أو قليل من الملح كانت محظورة على سميحة؛ لهذا يمكن أن نتصور دهشة ذات عندما فتحت باب شقتها استجابة لدق الجرس، لتجد الشنقيطي أمامها مضطربا شاحب الوجه: «المدام محتاجة لك.»
لبت ذات النداء، وتبعت الشنقيطي إلى صالة مزدحمة بأثاث متواضع ذي قطع كبيرة الحجم؛ مائدة سفرة مركونة لصق الجدار، مقاعد موسدة بلون وردي لامع ومغطاة بالبلاستيك، أنتريه من الإسفنج دموي اللون موزع في الأركان، لوحات الكانافاه المحتومة على جدران تلطخت بآثار الأصابع والرءوس وحفر المسامير وزوايا المقاعد. سميحة نفسها كانت ملطخة بآثار من نوع آخر؛ ففي غرفة النوم وفوق الفراش رقدت منفرجة الساقين وقد استقرت بينهما قطعة قماش ملوثة بالدماء. هكذا كانت الإطلالة الأولى على فخذي سميحة المبهرين.
أحضر الشنقيطي طبيبا نجح في وقف النزيف، وفشل في الحيلولة دون تكراره، فتكررت الاستعانة بذات، وتعمدت العلاقة بين المرأتين بالدماء؛ فسميحة المتفرغة لشئون مفرخة فشلت محاولات تشغيلها، والمحرومة من أي نشاط اجتماعي غير زيارات الأهل في المواسم والأعياد وجدت في ذات الناضجة نافذة على عالم لا تعرفه إلا في التليفزيون، وذات وجدت فيها متلقيا جديدا متلهفا، في حالة دهشة دائمة، ومصدرا طازجا للبث، محيطا بأنواع المواد التموينية التي تحملها العربات العسكرية إلى ذوي الحاجة من سكان العمارة، والأطعمة الجاهزة التي تجلبها يوميا زوجة موظف الزراعة ومدام سهير، وتطورات مسيرة الهدم والبناء.
فالعزلة التي عاش فيها الشنقيطي وزوجته لم تمنعهما من تأمل المسيرة إياها في عمق واستخلاص النتائج الضرورية. وفي زيارة شبه رسمية لذات وزوجها حملا ابنة أفكارهما؛ حلة واسعة من الألومونيوم تتألف من قطعتين متماثلتين، تقوم إحداهما بدور الغطاء للثانية؛ ولهذا تحمل مقبضا خشبيا بالإضافة إلى مقبس كهربائي متصل بشبكة من الأسلاك الداخلية.
جرت تجربة الابتكار الجديد في مشهد احتفالي؛ قطعت دجاجة إلى نصفين وسدا متجاورين في قاع الحلة، ثم وضعت فوق نيران البوتاجاز بعد إغلاقها، وأولج القابس في المقبس، ووصل الغطاء بالتيار الكهربائي. وبعد ربع ساعة بالضبط تصاعدت رائحة الشواء. وعلى الرائحة حسب الشنقيطي وعبد المجيد بقلم وورقة التكلفة والربح للإنتاج بالجملة.
أصبح الأربعة في الأيام التالية من حاملي الحلل؛ تعاون الرجلان في الإشراف على تصنيعها في دكان قريب لتصليح الغسالات. وباع عبد المجيد واحدة في البنك لرئيس قسم الأوعية الادخارية، وباع الشنقيطي أخرى في مجلس الحي للمسئول عن إعطاء تراخيص المنشآت الصناعية، وباعت ذات اثنتين في الأرشيف وثالثة لصديقتها هناء، واحتفظت لنفسها بواحدة، ثم اشترت أخرى من الطراز المعدل الذي لم يقيض لعامة المستهلكين أن يحصلوا عليه؛ إذ توقف المشروع بعد أن ارتفع عدد القطع المنتجة إلى سبع، ووصل السوق إلى درجة التشبع.
الذين يتذوقون لذة الابتكار والخلق، لا يسلونها. هكذا ظهر الشنقيطي وزوجته في زيارة رسمية جديدة، وقالت سميحة بانفعال: «مدام ذات .. ما رأيك في أن تدفعي عشرين جنيها الوقت، وتاخدي خمسة آلاف بعد شهر؟» اعتبرت ذات الأمر نكتة، فضحكت وهي في سبيلها لإعداد الشاي، لكن الشنقيطي الذي لا يعرف المزاح قال في صرامة: «الموضوع جد.»
بسط المشروع الجديد القادم من ألمانيا (كما قال): تدفع الجنيهات العشرين في صورة حوالة بريدية لشخص تعرفه، وتقنع خمسة أشخاص آخرين بأن يدفع لك كل منهم نفس المبلغ على نفس الصورة، ويكرر كل واحد منهم الأمر مع خمسة أشخاص آخرين، وهلم جرا.
لم يستوعب عبد المجيد (فضلا عن ذات) العملية الرياضية المعقدة التي شرحها زائره؛ فقد شرد عدة مرات، لا في أوجه تحصيل المبلغ الضخم، وإنما في أوجه إنفاقه؛ يشارك أحدا في شراء سيارة أجرة وتشغيلها؟ يستأجر كافيتريا؟ أو ميني ماركت؟ أما ذات فقد تسمرت عيناها على جدران المطبخ، ولاح لها شبح جمال عبد الناصر منهمكا في تكسيرها، وخلفه عكف أنور السادات، في عناية شديدة، على تثبيت قطع السيراميك الملون الفاخر.
ظهر الباشمهندس في اليوم التالي (وقد وصلته الأنباء بالتليباثي) عارضا خدماته، مؤكدا ضرورة فتح ملف الحمام لمعالجة الآثار الجانبية للعملية المحدودة التي قام بها في سقف الحاج فهمي، مقترحا القيام بعملية محدودة أخرى يتم خلالها تبييض الشقة كلها. ولم يكد ينصرف حتى طرق الباب زائر جديد، كهل فوق الستين، يتحسس خطواته في حذر من خلف نظارته السميكة؛ عم محروس الحلاق.
Halaman tidak diketahui