ثم إنه لو تيسر للبنان ما تيسر لغيره من البلدان من أسباب التحسين ومكملات العمران واشتغلت به يد الزراعة والصناعة كما اشتغلت بغيره لكان من أجمل البلدان وأفضلها؛ فإن الطبيعة ما ضنت عليه بشيء من محاسنها بل سخت عليه سخاء بغير حساب، ولكننا مع ذلك لا ننكر أن من تقلد زمام الأعمال فيه من المتصرفين الكرام قد بذلوا ما في وسعهم من تحسين الحال بتمهيد المسالك، وإنشاء المعابر والقناطر لأنهاره وسواقيه كما سيتبين ذلك في بابه. (5) نبات لبنان وشجره
تختلف المنابت في لبنان كثيرا بحسب اختلاف طبيعة الأرض فيه ودرجات الحرارة، حتى يكاد لا يوجد صنف من أصناف النبات إلا وله منبت صالح لغذائه ونموه من منابت أرض هذا الجبل. ومن أجل ذلك كثرت أصناف النبات فيه كثيرا؛ فإن اثنين من علماء النبات - وهما أهرنبرج وهمبريخ - قد تيسر لهما في مدة شهرين أن جمعا منه أكثر من ألف صنف ومائة صنف. وقد علمنا أن غيرهما من المشتغلين بجمع أصناف النبات - مثل الدكتور بوست والمسيو بلانش قنصل فرنسا في طرابلس سابقا - قد جمعا كثيرا من أصناف نبات لبنان، كما يتبين ذلك من كتاب أحدهما الدكتور بوست المسمى «نبات سورية وفلسطين والقطر المصري وبواديها». والسبب في هذا اختلاف طبيعة الأرض من جهة واختلاف درجة الحرارة من جهة أخرى، وقد قلنا إن طبيعة الأرض في لبنان تختلف اختلافا واضحا يعرفه خاصة اللبنانيين وعامتهم، حتى أصبح من المتداول على ألسنتهم أن بين قيد كل شبر من الأرض وشبر آخر طبيعة أخرى وكذلك درجات الحرارة فيه؛ إذ يوجد فيه من المنابت ما يصلح لنبات كل منطقة من مناطق الأرض، ذلك فضلا عن جودة هوائه وما يقع من الندى ليلا مما يلائم النبات في نموه بتلطيف سورة القيظ وبصون مائية النبات من الجفاف بالتعويض عليه من فروعه عما يفقده من جذوره بنقص المائية من الأرض لشدة الحرارة وتسلط الهواء الجاف. وحسبنا دليلا على هذا ما يشاهد من الفرق في نمو الأشجار بين عام يكثر فيه وقوع الندى ويقل الهواء الحار الجاف، وبين عام آخر يقل فيه الندى ويتسلط هذا الصنف من الأهوية.
إن ما اشتهر به لبنان من الأشجار في القرون الغابرة إنما هو الأرز، وهي كلمة معناها في العبرانية متين ومادتها في العربية من معانيها الثبات، وقد ورد ذكره في الكتاب المقدس في عدة مواضع، ومنه بني قصر داود وهيكل سليمان، ومنه خشب الهيكل الثاني الذي جدد في أيام زربابل، وكان من هذا الصنف من الشجر في أيام سليمان آجام كثيرة؛ إذ قيل إن سليمان شغل ثمانين ألف رجل بقطع الخشب منها، غير أنه لم يبق منها إلى الآن إلا شيء يسير؛ وهو أجمة فوق قرية معاصر الفخار، تشتمل على مائتين وخمسين شجرة تعرف عندهم وعند أهل القرى المجاورة لهم باسم «الأبهل»، وأجمة كبيرة فوق قرية الباروك، وأجمة فوق قرية عين زحلتا، وهذه كانت قد أحرقت لاستخراج القطران منها، ثم عادت فنمت وهي أكبرها شجرا ، وواحدة بين أفقا والعاقورة، وواحدة بالقرب من بشري يقصدها السياح من كل صقع؛ لضخامة أشجارها التي يبلغ عددها ستمائة وثمانين شجرة بين كبيرة وصغيرة قائمة بسفح الجبل في مكان يرتفع ستة آلاف قدم عن سطح البحر، وكانت الكبيرات منها في سنة 1550 بالغة 28 شجرة، وأما الآن فعددها 12 شجرة، وبعض الناس يحسبها مقدسة، وقد بني معبد إلى جانبها وفي قلب شجرة منها معبد لناسك، وقد أقام لهذه الأجمة المغفور له رستم باشا ثالث متصرفي لبنان سورا، وأجمة أخرى بين قرية تنورين وبشري صغيرة الشجر، وعدد شجراتها نحو عشرة آلاف.
والأرز من الفصيلة المخروطية، وهو عدة أنواع أصلها نوع الأرز اللبناني وهو أفضل الأنواع، يبلغ طول الساق منه أكثر من مائة قدم، ودائرته عند القاعدة تبلغ من 24 قدما إلى 30.
ومن أشجار لبنان السنديان بأنواعه، والسرو، والصنوبر، وأكثر ما يكون منه في قضاء المتن، والشربين، والأزدرخت، والجميز، والبطم، واللبنى المشهور باستعمال صمغه كاستعمال البخور كما هو وارد في نشيد الأنشاد، والنخل في سواحله ولا سيما الجنوبية منها، وقد كان عند الفينيقيين رمزا مقدسا، حتى إنه رسم على كثير من معابدهم مثل قلعة بعلبك وقلعة بزيزا في لبنان وشجر المقساس بالسواحل أيضا، ومنه يستخرج الدبق. ومن أشجاره: الزيتون، والعنب، والتوت. ويستحصل معظم رزقه من هذه الأنواع الثلاثة من الشجر، ولا سيما التوت منها فإن ما يصدر من الحرير في العام تزيد قيمته عن ثمانية ملايين فرنك، وينتفع بحطبه وثمره وكذلك بورقه علفا للمواشي، وأما الزيت المستخرج من الزيتون فمن أجوده ما يستخرج منه بإقليم الخرب من أقاليم لبنان، والسبب في جودته طريقة استخراجه، وطبيعة تربة منبته فإن الأرض البيضاء يكون في الغالب زيتها أجود من غيره.
ومنها اللوز والجوز وأشهره في شمالي لبنان والزعرور والخروب والصفصاف والطرفاء والتين والتفاح والمشمش بأنواعه، ويستخرج من نوى المرمنة زيت والكمثرى والخوخ والدراقن والليمون بأنواعه، والكرز والدلب والحور والزيزفون، واللزاب والدردار والقيقب والقطلب والزمزريق، والخروع والعناب والحناء والسفرجل. وأكثر ما يكون منه في قضا الكورة والفستق، ويطعمون شجر البطم منه والبندق والكستناء والعوسج والميس. ويوجد فيه كثير من الغراس والأنجم؛ كالدفل والصبير والموز، والورد والياسمين والآس، وقصب السكر والقصب الفارسي والغزار. ويستعمل لتربية دود القز والريحان والوزال، والقندول والبيلسان، والفل والياسمين، وكثير من النبات العطري؛ كالبنفسج والقرنفل والمردكوش، والحبق والنعنع والأقحوان، والمنثور والمضعف. ومن الحاصلات النباتية التبغ، وهو من أعظم موارد رزق اللبنانيين، وأجود ما يكون من هذا النوع إنما هو الذي يزرع في جبل الريحان وجبيل وبعض أنحاء الكورة، وأجود من ذلك كله ما يحصل من أرض دير البلمند. وقد أخذ بعض اللبنانيين في زرع الصنف الإسلامبولي من التبغ فلم يجئ على حسب المرغوب من حيث الجودة، كأن الأرض اللبنانية تشتمل تربتها على جواهر في تراكيبها لا تصلح لهذا الصنف، وخصوصا في القسم الجنوبي من الجبل، وأما القسم الشمالي فقد جاء بمحصول يقرب كثيرا في الجودة من الأصناف الإسلامبولية كالحاصل منه من قرية جوار الحوذ من أعمال قضاء المتن، والسبب لذلك في الغالب إنما هو كثرة البوتاس في الجنوب وقلته في الشمال ثم التنبك؛ فإن بعض اللبنانيين قد أخذوا في هذه الأيام يعتنون بزراعته، ولكن لم يأت بالفائدة المطلوبة إلا في بعض الأماكن مثل زحلة والجرمق من أعمال قضاء جزين؛ فإن الحاصل منه فيهما يقرب كثيرا من التنبك العجمي، ومن الحاصلات اللبنانية: الحبوب من قمح وشعير، وعدس وماش، وكرسنة وحمص، وفول وذرة، وسمسم وبيقة (باقية)، وفصة وبرسيم، وشوفان وحلبة، وبازلاء ولوبياء. وكثير من الخضراوات: كالخيار والكوسا، والملفوف والكرنب، والقثاء والقرع، واللفت والجزر، والفجل والخس، والبطيخ والبندورة، والباذنجان والبطاطة، والقلقاس البلدي والخرشف (أرضي شوكي)، والشمندور (البنجر)، وغير ذلك.
ومن الحاصلات اللبنانية أيضا «النبيذ»، وأكثره صرف غير مشوب بشيء؛ مما يدخله غير اللبنانيين في نبيذهم. فمنه الأسود والأصفر، فأما الأسود فهو في الغالب ذو عفوصة، وأما الأصفر فهو في الغالب حلو، كان في الأيام السابقة استخراجه خاصا بنواحي كسروان وما يليها إلى معاملة طرابلس ولا سيما سبعل التي قيل في نبيذها:
كل النبيذ محرم
إلا النبيذ السبعلي
ثم كثر استخراجه في جميع الأنحاء اللبنانية، وأجود ما يستخرج منه في هذه الأيام نبيذ قرية زكريت إحدى قرى قضاء المتن في لبنان، و«العرق»؛ وهو صنف من المسكرات يكاد يكون استخراجه خاصا باللبنانين، وأكثر ما يستخرج منه في مدينة زحلة، وقد اشتهر بالجودة منه ما يستخرج في قرية زوق ميكائيل إحدى قرى قضاء كسروان.
Halaman tidak diketahui