العربي كان يعرف الشورى كرأي نصيح قبل الإقدام على المهمات الممكن اختيارها بين بدائل متاحة، وهو معنى لا علاقة له بالديمقراطية؛ خاصة إذا ما تذكرنا الحديث الذي ينهي مسألة الشورى حتى كرأي في الإسلام، وهو: «اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.»
ولأن طاعة الإمام كانت طوال التاريخ الإسلامي هي المرجوحة على ما سواها، يحاول قرضاوي أن يكشف لنا سلبية الشورى حتى مع اقتصارها على مفهوم النصيحة، إذ يقول: «بعد غزوة أحد التي شاور النبي فيها أصحابه، ونزل عن رأيه إلى رأي أكثريتهم، فكانت النتيجة ما أصاب المسلمين من قرح» (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، مكتبة وهبة، القاهرة، 2001م، ص126).
في سياق بحثه حول الشورى الإسلامية يعرض الكاتب الإسلامي الدكتور بشار عواد معروف قولا للكاتب الإسلامي فهمي هويدي، وهو الملقب بالمستنير، يقول فيه هويدي: «لا يحسبن أحد أنه يمكن أن تقوم لنا قيامة بغير الإسلام، أو أن يستقيم لنا حال بغير الديمقراطية؛ إذ بغير الإسلام تزهق روح الأمة، وبغير الديمقراطية - التي نرى فيها مقابلا للشورى السياسية - يحبط عملها؛ بسبب ذلك نعتبر أن الجمع بين الاثنين هو من قبيل: المعلوم بالضرورة من أمور الدنيا.»
فأي خلط هذا؟! وأي خبط؟!
هويدي إن لم يحرض بلغة مكشوفة ويجيش بوضوح، فلا يجد فرصة للتحريض إلا واستثمرها ولو ضمنا؛ فهو يشعر المسلمين دوما أن هناك خطرا على الإسلام، وأن هناك من يريد به شرا؛ فهو يقول محذرا «ولا يحسبن أحد أنه يمكن أن تقوم لنا قيامة بغير الإسلام»، كما لو أن أحدا يطرح بديلا للإسلام. والواقع يقول إن أحدا لم يطلب من مسلم التخلي عن إسلامه؛ لأن الجمع بين العلمانية وأي دين لا يضر بأحدهما بل يفيد الدين منها فائدة عظيمة. هويدي يصوغ تعبيرات تشير إلى وهم غير حقيقي وغير مطروح، ثم يضع محظورا ثانيا للشرط التحذيري بقوله: «أو أن يستقيم لنا حال بغير الديمقراطية»، وهي إجابة متسرعة؛ لأن شرطه القطعي يعني أن عصور الإسلام السابقة، حتى عصر الخلافة - راشدة وغير راشدة - نفسه، كانت كلها غير مستقيمة؛ لأنها لم تعرف الديمقراطية. وهذا عيب استخدام الدين في السياسة؛ السقوط في الشراك اللفظية طوال الوقت. إن كلام هويدي يعني أن أمة لا إله إلا الله ظلت غير مستقيمة طوال 1426 سنة مضت من تاريخنا، ولن يصلح حالها إلا الديمقراطية التي اكتشفها الكفار. وهذا كلام ديمقراطي إذا كان يقصده حقا وصدقا. لكنه سرعان ما يتراجع إلى القبيلة ونظامها وإلى بدايات فجر البشرية ليجلس مع رفاقه على الشجر، إلى زمن النصيحة؛ لأنه يستكمل الشرح «الديمقراطية التي نرى فيها مقابلا «للشورى السياسية».»
إن الديمقراطية ليست دينا نخشى منافسته للإسلام. وإذا كانت الديمقراطية هي الشورى كما يقول فهذا يعني أن الكاتب الإسلامي المستنير لا يعرف ما هي الديمقراطية، لكنه يعلم ما هي الشورى. ولأنه أيضا يعلم أنها ليست الديمقراطية، إذا به ينحت لنا اصطلاحا جديدا لم نسمع به من قبل هو «الشورى السياسية».
فلم يرد من قبل لا في حديث ولا في قرآن ولا روايات إخبارية ولا سيرة؛ شيء اسمه الشورى السياسية؛ لم يرد عنها شيء في المكتبة الإسلامية بطولها وعرضها الذي يصل عددها إلى ما يزيد عن 10000 كتاب ومصنف، ويحكي لنا عن «الشورى السياسية» كما لو كانت شيئا معلوما يزوره علينا وعلى المسلمين باعتباره من الإسلام وأنه هو الديمقراطية، وهى ليست هذا ولا ذاك. إن المعاني والألفاظ ليست منضبطة بين يدي المستنير، فيمكن لأي لفظ أن يكون آخر، الكل سواء، كالمصاب بعمى الألوان. أصاب التعصب الديني مركز التمييز لديه، فصار دون قصد منه عاجزا عن التمييز. انظر كيف أمكنه أن يجمع بين الإسلام والديمقراطية شرط أن تكون الديمقراطية الخاصة بنا، هي الشورى السياسية التي نسمع بها لأول مرة من سيادته، قاصدا «تديين السياسة وأسلمة الديمقراطية بالشورى»، ثم إذا كانت الشورى السياسية جزءا من الإسلام كما قال فكيف يطلب الجمع بينهما، إنه يطلب الجمع بين الإسلام وأحد مكوناته، ويرى أن هذا الجمع «من قبيل المعلوم بالضرورة من أمور الدنيا». لقد تحول الفيلسوف المستنير وهو يحاول الجمع بين ما لا يجتمع إلى لغو الكلام غير المتسق، ولا المتفق مع الإسلام ولا مع الديمقراطية ولا مع المنطق ... فانتهى إلى كلام بلا معنى. وما دمنا في مسألة المعنى فلا بد أن نسأله عن معنى «تزهق روح الأمة» فهم يلقون كلاما كبيرا إلقاء؛ فأين هي هذه الأمة؟ وما إذا كان لهذه الأمة شعوب؟ أو بالأحرى ما هي؟ هل هي بدون شعوب؟ فأين هم جغرافيا؟ ومن هم سياسيا؟ وما هي حجته في الحديث بلسان هذه الأمة ليختار لها ويبكي على مستقبلها؟ هل الأستاذ هويدي يرى نفسه وفكره المفكك المتضارب ضميرا للأمة؟ أم هو سيد لم يأخذ مكان السيادة والسلطة بعد ويخطط لأمته؟ أم ورث سيادته عن سيادة سادتنا العرب الفاتحين؟
ولا تعلم سبب كل هذه المحاولات البائسة للهرب من الديمقراطية العلمانية بمفاهيمها الغربية، رغم أنها نجحت في الحفاظ على ديانات الشعوب التي دخلت عليها بلادها ولم تزلها من الوجود كما فعل الإسلام في البلاد المفتوحة أو كاد. الديمقراطية بمعناها العلماني المطبق في الغرب منتج غير إسلامي لكنه حقق للشعوب الشفاء من الأمراض الطائفية ومن العنصرية ... أم أن الإسلام هو الوحيد من بين ألف دين في العالم هو من اختارته العلمانية لتقتله من بين كل الملل والنحل؟ ونحن نعتقد أن الإسلام لا يقل قوة عن بقية الأديان التي تعايشت معا في ظل الديمقراطية، وأنه سيصمد كما صمدت بقية الأديان، ونعتبر كل من يحاول إخافتنا من الديمقراطية العلمانية هو نصاب دجال يريدها شورى لنفسه ولفريقه ليستبدوا بنا، هنا فقط تتصادم العلمانية الديمقراطية معهم؛ لأنها نعم قاتلة، قاتلة الاستبداد والعبودية وليست قاتلة الأديان.
الغريب أن هويدي وقرضاوي وأمثالهما يكتبون اليوم محاولين الاقتراب والتقرب من المتفوق الديمقراطي تشبها به، غير واعين أن مجرد فتح الموضوع واستجلاب الشورى من بين جثث التاريخ الرميمة والقول إنها هي الديمقراطية، هو اعتراف بالتدني وبالقصور وتمني أن نكون مثلهم، ولولا نجاحات الديمقراطية ما جلس هؤلاء يتفلسفون حول الشورى الملزمة وغير الملزمة ومن هم أهل الشورى وما هو عددهم؟ ولا حدثنا هويدي عن الشورى السياسية ولا قال لنا قرضاوي إن الديمقراطية هي جوهر الإسلام المتين.
هناك خوف عميق عند المسلمين من الحداثة والعلمانية، رغم أنهم بصدق الحال في أسفل تراتب الأمم وليس هناك بعدهم أسفل، وإن أخذوا بالديمقراطية العلمانية فلن تنزل بهم دركا دون ما هم فيه الآن، ولو كانت سما فلا بد أن نجربه كما هو في بلاده بشروط بلاده؛ لأن جسدنا مسمم أصلا حتى الموت ولن يضره سم جديد. اليابان والهند وإسرائيل لم تخش من الديمقراطية العلمانية على أديانها ومعبوداتها، وصمدت الديانات وتعايشت لأن الديمقراطية لا تطرح نفسها بديلا لأي دين، ولا تشكل خطورة على أي دين. انظر: هويدي خائف مرعوب على الإسلام وليس على ما يسميه الأمة، يقول: «لن تقوم لنا قائمة بغير الإسلام ...» خايف الإسلام ينتهي، بينما يجب أن يكون شديد الاطمئنان لرسوخ دينه؛ لأنه لا توجد أمم ملحدة إنما يوجد أفراد ملحدون كالمتنبي والرازي والمعري وابن الراوندي، مجرد أفراد لا يؤذون الدين بقدر ما أثروا حياتنا الثقافية والعلمية وكان نفعهم لنا عظيما. نحن لا نخاف على إسلامنا من العلمانية الكاملة بل نخشى ونخاف عليها من أمثال ابن هويدي وابن الجوزية وابن المودودي وابن قطب وابن عبد الوهاب وابن باز وابن عاكف، الذين هم وأمثالهم قد ألصقوا بالإسلام كثيرا مما لا يعرفه، حتى أصبح حملا ثقيلا على كاهل كل مسلم. الديمقراطية في الغرب لم تؤذ الإسلام الذي فر أصحابه به إليها لاجئين؛ ليقيموا هناك مدارسهم ومساجدهم وجامعاتهم في أرض العلمانية آمنين من كل سوء.
Halaman tidak diketahui