ما فرطنا في الكتاب من شيء ، معتبرين إياها تعميما على كل العصور وكل الأمكنة حتى نهاية الأزمان. وهو ما جعل المسلم يعتقد أن القرآن مصدر وحيد للمعرفة الصادقة لأي شأن أو صنف من صنوف المعرفة، وأنه لا إنجاز صحيحا ما لم يبن على القرآن. ووصل الأمر بالمسلم - إثباتا ليقينه - إلى مواجهة علوم الطب العلاجية بشرب بول الجمل الذي كان يباع في معرض القاهرة الدولي للكتاب كعلاج مسلم ضد العلاج الكافر، وبنفس القياس يواجه الديمقراطية بالشورى؛ فهي بالنسبة للديمقراطية كبول الجمل بالنسبة للبنسلين. ولأن المسلم يبني كل إنجاز ممكن على مقدسه فهو يتصور أن أي إنتاج واضح للآخرين ناتج بدوره عن كتابهم المقدس؛ الإنجيل أو غيره. ولأن المنجز العلمي العالمي أصبح داخل كل بيت في العالم كله، وفيه المسلمون، واضحا جليا أمامهم، فقد اعتبروا أنفسهم مهزومين على مستوى العقيدة؛ لذلك يشنون حربا عقيدية إسلامية على الغرب الصليبي لتدميره، وساعتها تتساوى الرءوس بعد خراب ديار المتقدمين ليتخلفوا كالمسلمين؛ انتصارا للإسلام ومقدساته على الغرب ومقدساته.
والذي لا يلحظه الإسلاميون وهم يستحضرون الشورى من وراء سجف زمان مات واندثر، أن الشورى نظام قبلي الأصل، وأن النظام القبلي هو أقدم تاريخيا وأبعد إلى الوراء إلى ما قبل بناة الأهرام وقيام دولة مصر القديمة بأزمان طوال. وقد تطورت مصر بعد النظام القبلي الأول عبر قرون متطاولة حتى انتهت صلتها بالشورى وأقامت بعدها دولتها الكبرى بقانونها بمؤسساتها بنظامها الهرمي التراتبي التخصصي الدقيق، وعندما أقامت الدولة المركزية الأولى في فجر الأسرات 3200ق.م (حسب تقدير ماير) كانت قد تجاوزت نظام القبيلة بثلاثة آلاف سنة أخرى مثيلة سابقة. ويأتي اليوم أبناء مصر من المسلمين ليطلبوا العودة إلى تلك الأزمنة القبلية ليستخدموا أدواتها وقوانينها وقيمها في مواجهة الحداثة. يريدون عودتنا إلى ما قبل عصر الأسرات!
المصري فقد حضارته وتاريخه وأصبح قبليا، بطولاته ليست هندسة معمارية عظيمة، ولا هندسة ري دقيقة، ولا اختراعا ولا كشفا، إنما هي بطولات زغلول النجار ومصطفى محمود اللذين اهتما بإثبات أن القرآن قد احتوى كل ما اكتشفه العلم الإنساني وكل ما يكتشفه بعد، في خرافات تلفزيونية، أو في صفحات أكبر صحف مصر، ليس فيها من العلم غير الحكي البدائي في ليالي سمر القبيلة حول البعير، حكي ألف ليلة وليلة، حكي لم ينتج شيئا في الواقع حتى الآن، وهو غير قابل لأن ينتج شيئا سوى ضياع المسلمين في مزيد من العودة إلى الوراء.
ويصبح «العلم والإيمان» مدرسة وجمعيات كبرى بل وعقيدة عند المسلمين، وهو ما لم ينتج أكثر من حكايات هابطة لتسلية المسلمين وحدهم في صحراء جهلهم القبلي؛ فحتى وهو ينتج، ينتج إنتاجا حكائيا أنانيا لا يصلح بالمرة لغير المسلمين ولا يسلي غير المسلمين. وغير واضح لدينا أن المنتج العلمي الغربي هو لكل البشرية، بينما علمنا المختلط بإيماننا منتج تمت صياغته دون وضع الفائدة في الاعتبار؛ لذلك هو لا يفيدنا ولا يفيد غيرنا. بينما العلم بمفهومه الغربي أفادهم وأفادنا. عندما ترى الاعتقاد بالعلمية التامة للقرآن حسب برامج العلم والإيمان راسخة لدى أطباء ومهندسين وحقوقيين مصريين عن يقين، فهو ما يعني أن الشر والسوء قد حدث للوطن بغض النظر عن كل الكوارث الأخرى؛ لأنه يعني أننا أمسينا نخلط بين الخيال والحقيقة، وهو الهذيان، هو الجنون.
الإخوان المسلمون يريدون إصلاح حالنا المتدهور بإحياء الموتى لينظموا لنا حياتنا كما كانت حياة من هم في مقابر الألف الميلادي السابع، وهي شهادة على الذات شديدة المرارة؛ لأنها تعني فقد الثقة الكامل بالذات، والشعور بالتدني والنقص الحاد في تكوين شخصية الفرد والمجتمع، بعد أن تكاثر على المسلم ما يقدمه له المشايخ كل يوم من أحمال تضاف إلى الإسلام ولم تكن فيه، ويزورونه عليه بالباطل؛ فالقرآن هدى للناس وليس فيه أينشتين ولا جاليليو؛ لأنه ببساطة لم يكن في زمانه لا أينشتين ولا جاليليو، وخاصة مع ظهوره في مكانه بالجزيرة التي كانت خالية من كل معرفة سوى علم الأنساب وشعر الفخر والهجاء. أصبحوا يقدمون الشورى للمسلمين كبديل تام الموافقة للديمقراطية، فيبتدعون في الإسلام ما لم يكن فيه، وهو البدعة المكروهة المنهي عنها شرعا ونصا. لقد أضافوا للإسلام ما يجعل أبا بكر الصديق يرسب في أي امتحان للتربية الإسلامية اليوم.
المسلم يعتبر كل ما يأتي من الغرب هو شر تم تدبيره بليل للمسلمين بالذات دون الهندوس والبوذيين والسيخ وكل الملل والنحل بأعدادهم الهائلة في العالم؛ لذلك يرفض حتى تقاليد المائدة الغربية كالشوكة والسكين؛ لأن له آدابا خاصة للمائدة؛ فالأكل جلوسا على الأرض مع وضع اليد اليسرى تحت الفخذ اليسرى واستعمال اليمنى فقط! هو رجوع كامل إلى القبلية رغبة في المغايرة والتمايز، ومع تصور المسلمين أن عادات الغرب بدورها مستمدة من دينهم فإنهم يكرهون تفوق ديمقراطيتهم. وسبق وتصدى مشايخنا للمطبعة والهاتف وللمذياع وللتلفاز ولقوانين الأمم المتحدة بإلغاء الرق، ولا زلنا ضد حقوق الإنسان، عن تصور أن الاعتراف بها هو اعتراف بقوة دينهم على ديننا؛ لذلك نرفض كل جديد يأتي من هناك، إلى أن يفرض نفسه علينا ويجد فتوى تائهة تبيحه ذات يوم ما دام نافعا وبلا ضرر ولا ضرار.
منطق المسلم يقوم على ربط التفوق العلمي للديمقراطيات الغربية بدينهم الذي لا بد أن يكون متفوقا ما دام هذا إنتاجه؛ لذلك يتصدى المسلم لكل جديد يأتي من عندهم دون أن يكون مشاركا فيه ولا حتى دون أن يفهم ما هو، كوقوفهم صفا مرصوصا ضد استنساخ الخلايا الجذعية في كوريا الجنوبية، دون أن يعرفوا لا ما هو الاستنساخ، وما هي الخلايا الجذعية، ولا حتى أين هي كوريا الجنوبية! فيصلوا هم إلى استبدال الأعضاء التالفة بأعضاء سليمة جديدة، ونصل نحن إلى بول الناقة.
إن علمنا الذي يصف البول كدواء هو علم هابط متخلف يقف عند فجر البشرية، وربطه بدين المسلمين هو إهانة لهذا الدين، ولأن كل الحضارات قامت على علوم لا علاقة لها بأي دين، فالوحي لم يأت مندليف، ولا نزل جبريل على أحمد زويل؛ كذلك الديمقراطية عندما نريدها، علينا أن نأخذها دون أن نمررها على ذائقتنا الدينية أولا، مثلها بالضبط مثل جدول العناصر.
وإن من يقف من مشايخ التطرف أو مشايخ الصحوة ضد الديمقراطية ليستبدلوها بالشورى، هو من أنصار الاستبداد؛ فبما أن الشيخ ليس ملكا ولا حاكما حتى يقف ضد الديمقراطية التي قد تهدد مركزه، فهو مأجور إذن للاستبداد ضد شعبه. إن الشيوخ يقومون بدور القوادين لحكام المسلمين المستبدين؛ ليأتوهم بالشورى التي لا بتهش ولا بتنش ... بحسبانها الديمقراطية، في خدعة لئيمة وغير نظيفة لرعاياهم من مسلمين بسطاء. ولولا هؤلاء المشايخ لعرف الشعب المسلم الديمقراطية منذ زمان، ولكان الآن يركب قطار الحداثة مثله مثل بقية الشعوب المحترمة. ولولا المسكنات الإسلامية في وسائل إعلام المستبدين وتعليمهم الموجه للناس لكان حالنا غير الحال؛ لأن أصل الديمقراطية وتعريف الناس بها في بلادنا يتم سرا، لكن تعريفهم بالإرهاب والدكتاتورية الدينية والسياسية فهو العلني. الشورى هي العلني، أما الديمقراطية بأسسها الحقوقية والتي تسمى العلمانية فهي في بلادنا كفر يجازى صاحبه بجز الرقبة مع تهليل المؤمنين المصلين المكبرين.
لقد استدعوا الشورى رغم علمهم أنها غير ملزمة للأمير، وهو ما يجيز للأمير عدم استخدامها من الأصل ما دام سيمكنه رفضها، وهو ما حدث تاريخيا. وانتهى شأن الشورى؛ لأنه قد ثبت بالوقائع أنه لو تقدم عشرة للخليفة بآرائهم واختار هو رأي المشير العاشر فقط، كما فعل عمر عندما أخذ برأي عبد الرحمن بن عوف؛ فالمعنى أن التسعة لم يستطيعوا أن يلزموا الخليفة بمشورتهم، وهذا عكس الديمقراطية تماما، هذا هو عين الاستبداد وجوهره المتين.
Halaman tidak diketahui