Dawla Cuthmaniyya
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Genre-genre
وشرع في توسيع طرق بغداد، وعند قدوم شاه العجم إلى بغداد أعد له قصرا فخيما أنشأ إزاءه حديقة غناء. فلما غادر الشاه بغداد جعل تلك الحديقة متنزها عاما دعاه «ملت باغجه سي» أو بستان الأمة، وكان يختلف إليه كأحد الناس؛ يجامل الأهالي ويحادثهم كأنه واحد منهم.
وأطلق من الحرية لمأموريه بقدر ما ألقى عليهم من التبعة وأوجب عليهم عدم المحاذرة من شيء إذا كانوا على ثقة من عملهم، حتى لقد كان يوبخ المأمور الذي يأنس منه تزلفا إليه بقول أو بفعل. وكان لا يدخر وسعا في إلقاء بذور الحرية ليألف الناس العمل بها والنطق بها، مهما كانت الحال إذا كانوا في جانب الحق.
دخل يوما قاعة مجلس الإدارة - والأعضاء مجتمعون - فقال: أرى الحاجة ماسة بنا إلى استئذان الباب العالي في زيادة الضرائب، فما رأيكم؟ قالوا جميعا: هذا هو الرأي وتلك هي الحكمة. قال: فلنكتب إذا محضرا ونرسله في الحال. فكتبه للكاتب، وبعد أن مهروه بأختامهم، قدم إليه فمهره، وقال: بارك الله فيكم وغادر المجلس. ثم رجع إليهم ثاني يوم وقال: فكرت في أمر زيادة الضرائب فتراءى لي أنها ظلم لا يجوز أن تثقل ذممنا به، ولكن سبق السيف العزل، فقد بعثت بمضبطة أمس إلى الباب العالي، فرأيي إذا رأيتموه صوابا أن نلحقها بأخرى نوضح فيها أننا تسرعنا بإرسالها، ونأتي على الأسباب الموجبة لنقضها، فما قولكم؟ قالوا جميعا: هذا هو الرأي، وتلك هي الحكمة. فأمر الكاتب فكتبها، وبعد أن وقعوا جميعا دفعها إليه. فأخرج المحضر الأول من جيبه وأمسك هذا بيد وذاك بيد، وقال: هذا هو الرأي وتلك هي الحكمة وأنا صاحبهما أمس واليوم، وسأظل كذلك غدا وبعد غد، فما شأنكم إذا وهذا المجلس. ثم ألقى عليهم عظة مختصرة، أوضح لهم في خلالها معاني الحرية ومراميها، وأوجب عليهم أن لا يخشوا مخالفته إذا رأوه على غير هدى.
وكان يلتهب غيرة على الشروع حالا في كل عمل يتضح له نفعه، والمجال فسيح في تلك الولاية وسائر الولايات، ولكن المال رب الأعمال غير متوفر لديه، ومالية الدولة في عجز ظاهر؛ فلا يسعها أن تمده بشيء. ومع هذا فبعد أن احتال على إرصاد المال اللازم لما تقدم من الأعمال بحيل شتى - لا محل لإيرادها - بدا له أن يظل سائرا في سبيله، وكانت الموارد قد نضبت، فكتب إلى الباب العالي تقريرا مفصلا وضع فيه مشروعا لإصلاح إدارة الجمارك وجباية الأعشار. وقال في آخره إن البلاد ما زالت في حاجة إلى كثير من الإصلاح وعدد من أنواعه ما شاء، وأوضح الفائدة منها للدولة والرعية. وقال في الختام: لئن أذنتم لي بالشروع في هذه الإصلاحات، فإني متعهد أن لا أثقل كاهل الخزينة بعد بغرش واحد، بل أجعل جميع النفقات المقبلة من الزيادة التي تحصل في الدخل. فأجابوه شاكرين على الزيادة، ولكنهم أمروه بإرسالها إلى الأستانة.
وليس هنا محل البحث في ما آل إليه أمر جميع تلك الأعمال الخطيرة التي قام بها ذلك المقدام، مما باد واضمحل أو رجع القهقرى ولو جرى الولاة خلفاؤه على أثره منذ نحو أربعين عاما لأصبحت بغداد الآن كما يقول أهلها سيدة البلاد.
تلك وأشباهها أعمال مدحت باشا بولاية بغداد وكل حكمه فيها نحو ثلاث سنوات ونصف.
فانظر الآن معي إلى أيام ولايته في سوريا وبعدها في أزمير في عصر الظلم والاستبداد.
تولى مدحت سوريا سنة 1878، وكان لا يزال هو إياه مصلحا كبيرا ووزيرا خبيرا، بل كان زاد حنكة وعلما بما ولي من المناصب في تلك الفترة، وحسبك منها الصدارة العظمى. أتى سوريا وكله همة وذكاء، فهم بأمور كثيرة لم يكد يتسنى له إنفاذ شيء يذكر في تاريخ هذه البلاد، كما يذكر في تاريخ بغداد، وأما في أزمير فلا يحفظ له التاريخ إلا تلك المكيدة الدهماء التي نصبت له فأخذ بها وقبض عليه وسيق إلى الأستانة ثم إلى الطائف حيث قضى شهيدا.
فلا ريب إذا أن ما أتاح لمدحت في الولاية الأولى ما لم يتحه له في الولايتين التاليتين إنما كان إطلاق يده في الأولى وغلها بأصفاد الجواسيس والأوامر السرية بعد ذلك.
وإذا قلت: إن مدحت كان رجلا فردا، فلا يقاس عليه فانظر إلى سائر الولاة تر بينهم من لا يكاد يقل عنه شأنا. ودونك مثلا: راشد باشا الذي تولى سوريا في نفس تلك الأثناء، ثم تقدم على مدحت في الشهادة؛ فكان من جملة المقتولين بيد جركس، وهم مجتمعون في بيت مدحت في الأستانة بعد ذلك التاريخ بأعوام.
Halaman tidak diketahui