Dawla Cuthmaniyya
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Genre-genre
وإن هذا الدستور على حسن وضعه وتنسيقه لو عمل به لما كان بنا الآن حاجة إلى هذا الانقلاب العظيم، بل جل ما كنا نرجوه أن تعدل بعض مواده، وتزاد وتنقص حينا بعد حين على ما يقتضيه الزمن وحالة الترقي العام.
أما الدستور الذي نحن في صدده - وقد ارتج العالم لإعلانه - فهو الحكم النيابي على الطراز الحديث؛ حيث تحكم الأمة نفسها بنفسها مع حفظ حقوق الخليفة الأعظم، وتتضافر على إنفاذ مضمون الدستور النظامي حرفا حرفا.
فدستورنا الجديد ليس، إذا، إلا نفس دستورنا القديم، ولا فرق بينهما، إلا أن الاستبداد حال دون إنفاذه فيما مضى، وأما الآن فهو نافذ بقوة الأمة.
وليس الحكم الدستوري بالبدعة الحديثة في تاريخ الأمم؛ فقد كانت له شئون متقطعة في أحكام كثيرة من دول العصور القديمة، كاليونان والرومان ودولة الخلفاء الراشدين، ولكنه لم يكن - في الغالب - على نظام ثابت، ولم تعمل به في زمن واحد أكثر من دولة أو دولتين، وكان في معظم الأوقات يمنح صاحب السيادة العليا نوعا من السلطة المطلقة على الأفراد، وإن قيده في بعض الشئون العامة، ولهذا لا نظننا مخطئين إذا قلنا: إن الحكم الدستوري لم يستتب أمره على هذا الشكل، ويعم دول الحضارة إلا على إثر الثور الفرنسوية، وإن كانت الثورة الإنكليزية قبل زهاء قرن من أعظم مهيئاته.
أما الحكم الاستبدادي، فإذا أريد به الحكم المطلق؛ حيث يقبض رجل واحد على أزمة الأمور، فهو الحكم الذي ألفه العالم منذ نشأته، وله بلا ريب مزايا باهرة مع جهل الرعية وذكاء الراعي وعدله، وكم لنا في العهد القديم من مثل برجل واحد نهض بأمة كانت قبله خاملة، ولكن كم لنا من جهة أخرى من مثل برجل واحد اضمحلت على يده أمم شتى وأمته منها.
أما الآن، وقد انتشر لواء العرفان وتعددت أمم الحضارة وعرف كل حقه، فلم يبق للحكم المطلق من داع، بل لم يبق للملوك من فائدة بتحمل التبعات المتعاقبة عليهم والأمة ناظرة إليهم، بل أصبحوا - وقد انقلبت حالة العالم - أفرغ بالا إذا ألقوا ذلك العبء العظيم على كواهل نواب شعوبهم، وتيسر لهم التفرغ لكل شاغل مفيد لهم ولمن انضم تحت لوائهم. وهؤلاء الملوك المقيدون بالدستور في هذا الزمن ليسوا بأقل شأنا ممن تقدمهم من ذوي السلطة المستبدة.
وليس بخاف أيضا أن الدولة العثمانية منيت، كسائر الدول العظمى، بدور انحطاط كاد يودي بها، لو لم يقم من رجالها وسلاطينها آونة بعد أخرى فحول سياسة ودهاء يرتقون ويدعمون، ولو لم يكن الأس مكينا والقوة راسخة وعروق الحياة لا تزال نابضة لعقب ذلك الانحطاط الانحلال الطبيعي الذي لا حياة بعده. ولكن لكل مصدر من مصادر الحياة والقوة حدا يقف عنده، وقد يكون الداء العضال أشد فتكا بالجسم الصحيح منه بالجسم العليل. ولقد قوي جسم هذه الدولة على تحمل جميع الأدواء التي انتابته من حروب وثورات وعبث حكام واختلال أحكام وتضافر أعداء وتراخي أصدقاء؛ فصدق فيها قول فؤاد باشا لنابليون الثالث يوم كان سفيرا في باريس: «إن دولتنا أقوى دول الأرض؛ إذ تعاقب عليها قرنان ودول أوروبا تهدم من بنائها الشاهق من الخارج، ونحن نهدم من الداخل والبناء لا يزال قائما.» وسواء صحت هذه الرواية أو لم تصح فإنها تشف عن حقيقة لا ريب فيها.
ولكن هذا الجسم على قوته الكامنة، وإن شئت فقل على ضعفه الظاهر، لم يقو على تحمل أذية الحكومة الغابرة بما انتابته من ضروب الظلم في عصر ليس كالعصور السالفة؛ يساق الناس فيه سوقا، ويتخذ فيه من دون الله أرباب ظالمون، فألوية الحكومات الدستورية قد انتشرت من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وكواكب الحرية قد سطعت حولنا واكتنفتنا من الجهات الأربع، هذا وأرباب الأمر فينا يودون بقاءنا في ظلمة مدلهمة.
فلم يبق بعد هذا المصير إلا أحد أمرين إما الموت العاجل، وهو ما لم نبلغه بعد بانحطاط قوانا، وإما تجديد قوى الحياة، وهو ما يتيسر لنا والحمد لله بهمة دعاة الحرية، وربما صحت الأجسام بالعلل.
فمعظم الشكوى، إذا، ليست من الاستبداد بمعنى الحكم المطلق، وإن كانت دولة هذا الحكم قد دالت، وإنما هي من ذلك الاستبداد بمعنى الحكم الجائر الذي أباح الموبقات واستباح المحرمات. استبداد حكم الأنذال برقاب الرجال فنكس الرءوس وذلل النفوس. استبداد لا مرشد له إلا التعنت عن هوى تميل به النفس إلى حيث لا تدري، ولا شرع له ولا وازع، يحلل اليوم ما يحرمه غدا. استبداد يتمثل لنفسه بنفسه، تصادر به الأموال بغير حساب، ويبطش المجرمون بالأبرياء بغير عقاب، إذا أنس نقمة من الناس عليه عمد إلى التفريق بينهم؛ فأثار فيهم ثائرة التعصب الذميم، فضرب بعضهم ببعض. حتى إذا غفلوا عن مظالمه حينا، ثم استفاقوا من غفلتهم ورجعوا إلى التظلم منه خلق لهم ملهاة أخرى يلتهون بها عنه.
Halaman tidak diketahui