46

ديفد هيوم

ديفد هيوم

Genre-genre

والخلاصة هي أن عاطفتي الزهو والضعة من ناحية، وعاطفتي الحب والكراهية من ناحية أخرى تتشابه في أمر وتختلف في أمر، فهي تتشابه في أنها عواطف تثير الارتياح (في حالتي الحب والزهو) أو تثير القلق (في حالتي الكراهية والضعة)، وهي تختلف في أن الزهو والضعة يتصلان بنفس الشاعر بهما، وأما الحب والكراهية فيتصلان بنفس إنسان آخر غير من يشعر بهما، أي إن الإنسان يشعر بالزهو أو الضعة إزاء نفسه، ويشعر بالحب والكراهية إزاء إنسان سواه. (8-3) المشاركة الوجدانية

تتصل المشاركة الوجدانية بموضوع العواطف وإن لم تكن في ذاتها عاطفة بعينها؛ فمن خصائص الإنسان الفطرية أن يشارك الناس بعضهم بعضا فيما يحسونه من عواطف، وهي خصيصة يقول عنها هيوم: ليس في طبيعة الإنسان كلها ما هو أهم منها وأخطر، وهو يعرف «المشاركة الوجدانية» بأنها ذلك الميل الفطري الذي يميل بالإنسان نحو أن ينقل لنفسه ميول الآخرين وعواطفهم، مهما يكن من اختلاف، بل من تضاد، بينها وبين ما عنده هو من ميول وعواطف؛ وطريقة هذا الانتقال هي كما يأتي: يشاهد الواحد منا في الآخر ظواهر معينة، فتكون هذه المشاهدة انطباعا على حواسه؛ ثم عن طريق الترابط تستدعي هذه الظواهر الجسدية المرئية ما كان قد ارتبط بها في خبرته هو الماضية من عاطفة؛ فمثلا يرى الواحد منا في شخص آخر اصفرارا في الوجه وارتعاشا في الأطراف ... إلخ، فيتذكر من خبرته الماضية ما كان قد حدث له هو نفسه من ظواهر شبيهة بما يرى الآن في سواه، ولما كانت تلك الظواهر في خبرته الماضية قد ارتبطت عنده بالخوف، بحيث ارتبطت «فكرة» هذه الملامح الجسدية عنده ب «فكرة» الخوف، فإن الانطباع الذي تنطبع به حاسته الآن مما يرى في سواه، تستدعي عنده عاطفة شبيهة بالعاطفة التي كانت قد صحبت عنده مثل هذه الظواهر الجسدية، أي إنها تستدعي في نفسه شعور الخوف؛ أو بعبارة موجزة واضحة، تكون المراحل التي تنتقل بها المشاركة الوجدانية كما يلي: رؤية علامات جسدية معينة في شخص آخر، فيستدعي ذلك عندنا «فكرة» عاطفة معينة مرتبطة بتلك العلامات الجسدية، ثم تستثير هذه «الفكرة» العاطفة نفسها التي تكون هذه «الفكرة» صورتها الذهنية؛ وبهذا تنشأ عند الرائي نفس العاطفة التي يتأثر بها الشخص المرئي؛ فإن كان الشخص المرئي مرحا، نشأت عند الرائي عاطفة المرح، وإن كان حزينا، نشأت عند الرائي عاطفة الحزن وهكذا.

وفي شرح عملية الانتقال الوجداني هذه من شخص إلى آخر، يستخدم هيوم مبدأ عاما عرضه في تحليله للجانب العقلي من الإنسان (وقد أسلفناه لك في هذا الكتاب عند الحديث عن حقيقة الاعتقاد في الفصل السادس)، ومؤداه أن الإنسان إذا ما انطبعت إحدى حواسه - كحاسة البصر مثلا - بانطباع معين ، فإن هذا الانطباع تبعا لقوانين الترابط، سيستدعي ما يرتبط به من «أفكار»، ثم على حسب قوة الانطباع وشدة وضوحه تكون قوة «الفكرة» المستدعاة وشدة وضوحها؛ فإن كان الانطباع الراهن قويا ناصعا، كانت الفكرة التي يستثيرها في أذهاننا قوية ناصعة كذلك، حتى ليظن الإنسان عندئذ أنه ليس إزاء «فكرة» في ذهنه، بل إزاء انطباع حسي.

104

وها هنا نلاحظ شبها قريبا بين «المشاركة الوجدانية» في مجال العواطف، وبين «الاعتقاد» في مجال الأفكار العقلية؛ فكما أن «الاعتقاد» في صواب فكرة معينة ليس هو نفسه فكرة بين الأفكار، بل هو «طريقة» مثول هذه الفكرة في الذهن، فكذلك «المشاركة الوجدانية» ليست عاطفة بين العواطف، بل هي «طريقة» حدوث العاطفة في نفس الشخص العاطف؛ أو بعبارة أخرى لو أردت تحليل المحصول الفكري عند الإنسان إلى عناصره ومقوماته، فلن تجد «الاعتقاد» واحدا منها، وكذلك لو حللت عواطف الإنسان إلى مفرداتها فلن تجد «المشاركة الوجدانية» عاطفة منها؛ لأن كليهما «طريقة» مثول أو حدوث وليسا هما بالعنصرين القائمين بذاتيهما بين مفردات «الأفكار» أو مفردات «العواطف»؛ فما «الاعتقاد» في مجال الأفكار من ناحية، و«المشاركة الوجدانية» في مجال العواطف من ناحية أخرى، سوى انتقال قوة وضوح انطباع راهن إلى الفكرة التي يستدعيها في الذهن ذلك الانطباع، حتى إذا ما كانت الفكرة المستدعاة قوية الوضوح، عملت في الإنسان كما لو كانت انطباعها الأولي الأصيل.

105 (9) في الأخلاق

إنه ليس مما يحتمل الشك أننا إذ نحكم على الناس بما يرفعهم أو يخفضهم في أنظارنا، فإنما نصدر في هذه الأحكام عن صفات نلتمسها فيمن نحكم عليه، كما أننا نلجأ في أنفسنا إلى أساس نحتكم إليه، وسؤالنا الآن هو هذا: بأي معيار وعلى أي أساس نحكم بالفضل أو بعدمه في هذا الشخص أو ذاك؟ أنقيم حكمنا على أساس من العقل أم على أساس من العاطفة؟ هل تكون أحكامنا الخلقية نتيجة حجاج منطقي وبرهان عقلي أم تكون صادرة عن شعور باطني نحسه في أنفسنا إحساسا مباشرا؟ هل تكون تلك الأحكام من قبيل القضايا العقلية - كنظريات الهندسة مثلا - التي يتفق عليها الناس جميعا ما دام برهانها مقبولا عند العقل، أم تكون من قبيل إدراكنا للجمال والقبح إدراكا يختلف فيه فريق منا عن فريق اختلافا يسببه اختلاف التربية والظروف؟

إن الفلاسفة الأقدمين - كما يقول هيوم

106 - على الرغم من أنهم يؤكدون بأن الفضيلة ليست سوى مطاوعة العقل في أحكامه، إلا أن تأكيدهم ذاك لم يعد مجرد القول؛ لأنهم غالبا ما يتحدثون عن الفضيلة وكأنما هي مستقاة من الذوق والعاطفة لا من العقل والمنطق؛ ومن الناحية الأخرى ترى الفلاسفة المحدثين على عكس ذلك، يدافعون عن وجهة النظر القائلة بأن الأحكام الخلقية قائمة على الذوق والعاطفة، شأنها في ذلك شأن الجمال، إلا أنهم يعودون فيحاولون إقامة الحجة العقلية على ما يقولون؛ فلا القدماء ولا المحدثون خلوا من هذا التناقض، فكلا الفريقين حائر: أيجعل الأخلاق وأحكامها من شأن العقل وحده أم من شأن الذوق وحده أم يتردد في قوله بين العقل والذوق، يأخذ بهذا مرة وبذلك مرة؟

أما هيوم فالرأي عنده صريح واحد، وهو أن الحكم الخلقي قائم على الذوق أو العاطفة، على أن يقوم العقل ببيان تفصيلات الموقف لكي يتاح للإنسان أن يميل بعاطفته أو ينفر.

Halaman tidak diketahui