53
إن من مبادئ التي يأخذ بها هيوم مبدأ عن الأفكار المتضادة، يذهب به إلى أن الفكرتين المتضادين لا يقومان في الذهن معا بسبب أن الواحدة منهما «تمحو» الأخرى؛ ولكن أي الضدين يمحو الآخر؟ المرجع هنا لدرجة الوضوح في الذهن؛ فأوضح الضدين يزيل أقلهما وضوحا؛
54
وتطبيقا لهذا المبدأ في حالة زهرة النرد التي نحدثك عنها، والتي نقش عدد معين على أربعة من جوانبها ونقش عدد معين آخر على الجانبين الآخرين، إذا ما أردنا أن نحكم أي الجوانب أرجح ظهورا، كان لدينا فكرتان متضادتان: هما فكرة العدد المكرر على أربعة جوانب من جهة، وفكرة العدد المكرر على جانبين من جهة أخرى؛ ولا بد لأحد هذين الضدين أن يزيل الآخر ويمحوه، وأوضحهما هو الذي تكون له الغلبة، وإذن تبقى في أذهاننا فكرة العدد المكرر أربع مرات على جوانب الزهرة، فنحكم له برجحان الظهور.
تلك هي خلاصة ما يقوله هيوم عن «احتمال المصادفات» وأما «احتمال الأسباب» فهو ذلك الذي يحكم به الإنسان بناء على اطرادات سابقة وقعت الحوادث على نسقها؛ فكلما اطرد وقوع الحوادث التي من نوع معين على نسق معين، تكونت لدى الإنسان «عادة» تميل به إلى توقع نفس هذا الاطراد من جديد؛ ولما كانت «العادة» - أيا كانت - تزداد مع التكرار رسوخا وثباتا، فإن الإنسان كلما ازداد مشاهدة للوقوع المطرد لحادثة معينة على نسق معين، ازداد مع التكرار يقينا بأن الحادثة ستقع على نفس الاطراد في المستقبل كما حدث لها في الماضي؛ وبذلك ينتقل الإنسان بحكمه من مرحلة «التخمين» الدنيا، إلى مرحلة أعلى من مراحل الاحتمال، وهي ما أطلق عليه اسم الاحتمال «البرهاني»؛ ويتم هذا الانتقال متدرجا في بطء بحيث لا يلحظ الإنسان خطواته إلا حين يمعن به السير من طرف إلى طرف.
والعلاقة السببية بين الحوادث هي من أهم ما يذكره هيوم في سياق حديثه عن الاحتمالات البرهانية؛ فعلى الرغم من أن الإنسان يبدأ - إذ يبدأ خبرات حياته - باحتمال المصادفات إلا أنه ينتقل منها إلى احتمال البرهان، بمعنى أنه يشاهد بادئ ذي بدء شيئا يتبع شيئا آخر في الحدوث، فتكون له هذه المشاهدة في حكم المصادفة التي تجيز أن يكون الشيء اللاحق غير الذي وقع بالفعل لاحقا؛ لكن هذا التلاحق بين الشيئين يطرد على مر الأيام، فتدخل العلاقة بينهما في مجال آخر من مجالات المعرفة، هو مجال الاحتمال البرهاني، الذي إن لم يكن يقينا من الوجهة المنطقية، فله ثبات اليقين من الوجهة التجريبية العملية.
ثم تتكون عند الإنسان «عادة» التلاحق السببي، بحيث يكفيه بعد ذلك أن يتلاحق الشيئان مرة واحدة، ليربط بينهما رباطا سببيا، بحيث يتوقع النتيجة إذا وقع السبب، لا لأن الشيئين اللذين هما سبب ونتيجة قد تكرر وقوعهما مرات عدة، بل لأن «عادة» الحكم السببي قد تكونت في المراحل الأولى من حياة الإنسان؛ أو بعبارة أخرى، لقد «تعود» الإنسان اطراد الطبيعة في تتابع حوادثها، وعلى أساس هذا الاطراد يجيز لنفسه بعد ذلك أن يتوقع للمستقبل أن يجيء على صورة الماضي، فإذا ما حدثت حادثة ما، كانت قد حدثت في الماضي متبوعة بحادثة معينة، فعلى أساس اطراد الطبيعة الذي «تعوده» الإنسان من تجاربه، يستطيع أن يحكم على المستقبل بأنه إذا حدثت الحادثة الأولى، فستحدث في إثرها الحادثة الثانية. (4) بين الضرورة والعرض (4-1) فكرة «الضرورة» لا أصل لها
يستهل ديفد هيوم حديثه عن فكرة الإنسان عن العلاقة الضرورية
55
التي يحسبها قائمة بين شيء وشيء، كالعلة ومعلولها مثلا، بقوله إن الميزة الكبرى التي تمتاز بها العلوم الرياضية على العلوم الأخلاقية، هي أن الأفكار في العلوم الرياضية واضحة ومحددة؛ فإذا ما كان ثمة أدنى اختلاف بين فكرة وأخرى أمكن للإنسان إدراكه فورا؛ والمصطلح الذي يطلقه الرياضيون على فكرة من أفكارهم يظل ثابتا على معناه الواحد الواضح المحدد، فلا اختلاف ولا غموض؛ فيستحيل على أحد أن يخلط بين الشكل البيضاوي والدائرة مثلا، أو بين المثلث المتساوي الأضلاع والمثلث المختلف الأضلاع، لأن كل شكل من هذه الأشكال الهندسية له خصائصه الواضحة المميزة، ولا كذلك الأمر في الفضيلة والرذيلة أو في الصواب والخطأ، فها هنا ترى المعالم الفاصلة قد انبهمت، وجاز أن يزل الإنسان بحيث يظن فضيلة ما ليس منها، وصوابا ما هو خطأ.
Halaman tidak diketahui