وكما يتناقص وضوح الفكرة حين تكون ذاكرة حتى تبلغ درجة من الغموض تصبح فيها خيالا، فكذلك قد يزيد وضوح الفكرة حين تكون خيالا حتى تبلغ درجة من الوضوح تصبح فيها ذاكرة؛ وذلك ملحوظ في الكاذب حين يكرر كذبته ويعيدها مرة بعد مرة، فتتضح الصورة في ذهنه حتى ليأخذ هو نفسه في الاعتقاد بأنه إنما يذكر ما قد وقع، وليس يختلق صورة من محض خياله؛ فالعادة هنا - أي التكرار - تفعل ما تفعله في مواقف أخرى كثيرة، وهو أن تكسب الفكرة وضوحا كالوضوح الذي كانت تكسبه لو كان مصدرها انطباعا آتيا من الطبيعة الخارجية.
38
على أن التفاوت في درجة الوضوح إن يكن هو المميز الأساسي فليس هو بالمميز الوحيد للذاكرة من الخيال؛ بل هنالك فارق آخر وهو أن الخيال لا يتقيد بنفس الترتيب الذي كانت الانطباعات قد جاءتنا به أول مرة، على حين تتقيد الذاكرة بذلك الترتيب؛ فمن الواضح أن الإنسان حين يتذكر ما قد خبره من حوادث، فإنما يتذكرها كما وقعت سابقا فلاحقا، فإن حدث أن خلط الأوضاع ولم يذكرها كما وقعت، كان ذلك نقصا في ذاكرته وعيبا؛ فالمؤرخ - مثلا - له أن يقدم حادثة على أخرى في الوقت الذي يعلم فيه أن الحادثة التي قدمها في الترتيب قد وقعت مؤخرة، لكنه لا بد - لكي يكون مؤرخا دقيقا - أن يكون على وعي بما هو فاعل؛ وكذلك نفعل في خبراتنا الماضية حين نعود إلى ذكرها، فلا تكون الذاكرة سليمة إلا إذا أعيدت الخبرات بترتيبها الأصلي، ما لم نتعمد لسبب من الأسباب أن نقدم المتأخر ونؤخر المتقدم.
فوعينا للترتيب الذي وقعت به الحوادث صفة تميز الذاكرة من الخيال الذي يفك عن نفسه هذا القيد؛ وانظر إلى القصص والشعر، تر القصصي أو الشاعر قد قلب أوضاع الأشياء الطبيعية رأسا على عقب، فحيوان ينطق بما ينطق به الإنسان، وحصان يطير بالأجنحة التي يطير بها الطير، وأفاع تزفر ألسنة من لهب، وعمالقة تبلغ من الارتفاع ما لم يبلغه أحد من البشر ... وهكذا نتلقى العناصر الأولية عن طريق انطباعاتنا من الطبيعة، لكننا نعيد ترتيبها ونغير أوضاعها حين يكون الأمر متروكا للخيال.
39 (3) يقين المعرفة واحتمالها (3-1) علاقة السببية
لا يخرج الموضوع الذي يتناوله العقل بالتفكير عن أحد أمرين: فهو إما أن يكون متصلا ب «العلاقات الكائنة بين فكرة وفكرة» أو أن يكون متصلا ب «أمر من أمور الواقع»؛
40
والعلوم الرياضية هي من الصنف الأول، والعلوم الطبيعية من الصنف الثاني؛ أو بعبارة أخرى، كل قضية نحكم بصدقها بالحدس أو بالبرهان القياسي هي من الصنف الأول، وكل قضية نحكم بصدقها على أساس الخبرة الحسية هي من الصنف الثاني، فقولي عن المثلث إن زواياه تساوي قائمتين هو قول أقيم البرهان على صدقه بالقياس المنطقي، ولذلك فهو قول يستنبط نتيجة من مقدماتها، أي إنه يستنبط فكرة من فكرة دون الرجوع إلى الأشياء الطبيعية الخارجية، ولذلك فهو قول كل ما فيه أنه تحليل لفكرة معينة كي نستخرج منها فكرة أخرى تتولد عنها؛ وأما قولي عن الشمس إنها تبعد كذا ميلا عن الأرض، فهو ينبني على مشاهدة الخارج ووصفه وسنرى أن المعرفة التي من القبيل الأول يقينية، وأما المعرفة التي من القبيل الثاني فاحتمالية تحتمل الخطأ حتى وإن رجحنا فيها الصواب.
القضية من قضايا الهندسة والجبر والحساب، كقولنا - مثلا - إن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية مساو لمجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين، أو أن خمسة مضروبة في ثلاثة تنتج عددا هو نصف الثلاثين، هي قضية تحدد العلاقة بين أفكار، ولا شأن لها بالواقع كما هو واقع؛ ففي المثل الأول تحديد للعلاقة بين مربعات ثلاثة نتصورها بالفكر، وفي المثل الثاني تحديد للعلاقة بين أعداد معينة نحسبها ونتصورها بالفكر كذلك؛ فهذه وأمثالها قضايا نكشف عن صدقها بعمليات فكرية صرفة، دون الرجوع إلى شيء مما هو واقع في أرجاء الكون؛ فلو لم يكن في الطبيعة كلها مربع واحد ولا مثلث واحد ولا دائرة واحدة، لما نقصت درجة اليقين التي نحكم بها على النظريات التي أوردها إقليدس في هندسته.
ولا كذلك القضايا التي نصف بها أمور الواقع كما وقعت أو كما ينتظر لها أن تقع؛ ففي الوقت الذي أتصور فيه استحالة ألا يكون المربع ذا قوائم أربع، لأنها حقيقة تترتب على تعريفه، أستطيع أن أتصور نقيض أية واقعة من الوقائع الطبيعية، فلا استحالة عند العقل المحض أن تجري وقائع الطبيعة على غير الصورة التي تجري عليها؛ وليس أعسر على العقل أن يتصور نقيض الواقعة الطبيعية من أن يتصور الواقعة كما وقعت؛ فلأن تغيب الشمس غدا عن الظهور فلا تشرق ، أمر لا يشق على العقل أن يتصوره، فمثل هذه الصورة عنده يساوي في سهولة التصور أن تشرق الشمس غدا؛ وعبثا تحاول أن تقيم برهانا عقليا على بطلان القول بأن الشمس لن تشرق غدا؛ ولو كان مثل هذا البطلان مما يقام عليه البرهان العقلي، لكان في تصوره تناقض، بل لكان مجرد تصور العقل له أمرا محالا.
Halaman tidak diketahui