وأعود فأسأل: أين المسمى الذي أطلق عليه اسم «إنسان»؟ ليس في عالم الأشياء شيء مجرد عام، كلها أشياء جزئية فردية، وكان يصح أن أطلق اسما خاصا على كل واحد من تلك الأشياء الجزئية الفردية وينتهي الإشكال، فإلى أي شيء أشير إذن بالكلمة المجردة العامة «إنسان»؟
هذا هو السؤال بعينه الذي انقسم الفلاسفة حياله ثلاثة مذاهب: ففريق يتبع أفلاطون في قوله إنه إذا كان اسم العلم يشير إلى فرد بعينه، فالاسم الكلي المجرد يشير إلى مسمى كلي مجرد، ولكن أين هذا المسمى ولست أرى حولي إلا أفرادا جزئية؟ يجيبك هذا الفريق إنه ليس هنا في هذا العالم الأرضي، ولكنه في عالم آخر، عالم قوامه كائنات من نوع آخر، هي أفكار مجردة وليست هي بالأفراد الجزئية، فلفظ «إنسان» يشير إلى «شيء» حقيقي قائم بذاته في ذلك العالم، هو الفكرة المجردة، أو المثال العقلي الذي صب على غراره هؤلاء الأفراد الذين نراهم هنا في دنيانا هذه؛ ولذلك سمي هذا الفريق من الفلاسفة بفريق «الشيئيين» وكبير مذهبهم هو أفلاطون.
وفريق آخر يتبع أرسطو، يذهب إلى أن الكلمة العامة «إنسان» بالطبع لا تشير إلى زيد وحده أو إلى عمرو وحده من بني الإنسان، لكنها تشير إلى كائن مثلها فيه التعميم والتجريد، لكن هذا الكائن لا هو في دنيا الأفراد الجزئية ولا هو كذلك في عالم فوق هذا العالم كما زعم أفلاطون، إنما هو كائن في عقل أي فرد منا، فعند كل فرد منا فكرة أو تصور مجرد، أقامه في رأسه، هو الذي نشير إليه بالكلمة العامة «إنسان»؛ ولذلك سمي هذا الفريق بالتصوريين.
وفريق ثالث يختلف في الرأي عن هؤلاء وأولئك؛ إذ يرى أن ليس في العالم إلا أفراد جزئية، وأنه من المحال علينا أن نستمد معارفنا إلا من هذا العالم، وبالتالي يتحتم على كل معارفنا أن تجيء فردية جزئية، وإذن فليس في رأسي من الناس إلا صورة فلان أو فلان، فإذا استعملت كلمة «إنسان» العامة فلست أشير بها إلا إلى واحد من هؤلاء الأفراد، أتخذه ممثلا لسائر أشباهه؛ وبهذا يكون اللفظ الكلي «إنسان» هو كأي اسم آخر أسمي به هذا الفرد أو ذاك، ومن ثم سمي هذا الفريق ب «الاسميين».
13
وكان فيلسوفنا هيوم من فريق «الاسميين» بل كان زعيما من زعمائهم؛ وتلك بالطبع نتيجة تلزم حتما عن مذهبه في تحليل المعرفة إلى «انطباعات» و«أفكار»، فليست «الفكرة» عنده إلا «انطباعا» بهت لونه، ليست «الفكرة» إلا نسخة من «انطباع» تأذنا به، لكن الانطباع محال أن يكون إلا لفرد جزئي معين، كيف تنطبع العين - مثلا - إلا بهذا الفرد الجزئي أو ذاك؟ هل ترى العين «إنسانا كليا» أو «مثلثا كليا» أو «قطا كليا» أم ترى هذا الفرد أو ذاك من بني الإنسان، وهذا المثلث أو ذاك، وهذا القط أو ذاك؟ وإذا كانت العين لا ترى إلا أفرادا جزئية أو مواقف جزئية، فالأفكار - بالتالي - لا تكون إلا صورا ذهنية لأفراد جزئية أو مواقف جزئية ... فكيف نفسر الدلالة الكلية التي تكون للفظ الكلي؟
يجيب هيوم عن هذا السؤال
14
بما خلاصته أن الاسم الكلي هو اسم نشير به إلى صورة ذهنية جزئية (أي «فكرة» باصطلاح هيوم) هي بدورها نسخة من انطباع انطبعنا به في خبراتنا المباشرة، والانطباع - بداهة - لا يكون إلا لمؤثر جزئي بكامل فرديته، لا تعميم فيه ولا تجريد.
يقول هيوم: إن الفكرة المجردة «إنسان» تمثل أفراد الناس في مختلف أحجامهم وصفاتهم، وقد يقال إنه لا يمكن أن يتم لها هذا التمثيل إلا بإحدى وسيلتين، فإما أننا نحشد في رءوسنا صورا لجميع أفراد الناس، ثم نشير إليهم جميعا بهذه الكلمة العامة «إنسان» أو أننا نستغني عن كل هؤلاء الأفراد بحيث نجعل هذه الكلمة لا تشير إلى أي منهم على وجه التخصيص؛ والوسيلة الأولى مستحيلة لأنها تقتضي عقلا إنسانيا يحيط بما لا نهاية لعدده من أفراد لهم ما ليس له نهاية من مختلف الصفات، وإذن فتبقى الوسيلة الثانية التي نجعل بها الكلمة الكلية لا تعني فردا معينا بصفاته المعينة دون سائر الأفراد، وهي أيضا مستحيلة لأن تجريد الفرد عن صفاته التي تميزه ضرب من المحال، نعم قد يقال إننا في مأزق لا مفر منه، إذا نحن أخذنا بمذهب يقول إن الكلمة الكلية تشير إلى فرد بعينه ليكون ممثلا لسائر أفراد نوعه، لأننا إما أن نحشد مجموعة الأفراد كلها وهذا محال على العقل الإنساني المحدود، وإما أن نستغني عن الأفراد كلها فنجاوز صفاتها الجزئية الفردية المميزة وهو ما يهدم رأينا ؛ غير أننا نقيم برهانين على صدق ما نذهب إليه، فنبرهن أولا على أنه مما يستحيل استحالة قاطعة أن نتصور أية صفة كما كانت أو كيفا، إلا إن كانت تلك الصفة جزئية فردية، ثم نبرهن ثانيا على أن الفرد الذي نختاره من سائر أفراد النوع، وإن يكن مختلفا عن بقية الأفراد إلا أنه من الممكن استخدامه ممثلا لها.
Halaman tidak diketahui