بسم الله الرحمن الرحيم
الضروري في أصول الفقه
أو مختصر المستصفى
لأبي الوليد محمد بن رشد الحفيد المتوفى سنة ٥٩٥هـ
تقديم وتحقيق جمال الدين العلوي
دار الغرب الإسلامي
بيروت الطبعة الأولى ١٩٩٤
1 / 1
مقدمة التحقيق
١- أما بعد حمدا لله معلم البيان، وموجب النظر والإستدلال، ومختص الإنسان بإقامة الحجج البالغة وضرب الأمثال، والصلاة على محمد خاتم الرسل ونهاية التمام والكمال فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت على جهة التذكرة، من كتاب أبي حامد ﵀ في أصول الفقه الملقب بالمستصفى، جملة كافية بحسب الأمر الضروري في هذه الصناعة ونتحرى في ذلك أوجز القول وأخصره، وما نظن به أنه صناعي. وقبل ذلك فلنقدم مقدمة نافعة في غرض العلم المطلوب ها هنا، ومنفعته فنقول:
٢-إن المعارف والعلوم ثلاثة أصناف (١):
إما معرفة غايتها الإعتقاد الحاصل عنها في النفس فقط، كالعلم بحدث العالم، والقول بالجزء الذي لا يتجزأ وأشباه ذلك.
وإما معرفة غايتها العمل، وهذه منها كلية وبعيدة في كونها مفيدة للعمل. فالجزئية كالعلم بأحكام الصلاة والزكاة وما أشبههما من جزئيات الفرائض والسنن. والكلية كالعلم بالأصول التي تبنى عليها هذه الفروع من الكتاب والسنة والإجماع. والعلم بالأحكام الحاصلة
_________
(١) يختلف تصنيف العلوم هاهنا عما ذهب إليه الغزالي في المستصفى، فقد قسم أبو حامد العلوم إلى دينه وعقلية. ثم فصل القول في الدينية التي قسمها إلى كلية وجزئية وجعل علم الكلام العلم الكلي والعلوم الأخرى بما فيها أصول الفقه علوما جزئية.
وذهب أبو حامد في موضع آخر إلى أن أوصل الفقه من علوم النظرية. أما ها هنا فالمعلوم نظرية أو عملية أو آلية وأوصل الفقه علم آلي منطقي.
1 / 34
عن هذه الأصول على الإطلاق وأقسامها، وما يلحقها من حيث هي أحكام.
وإما معرفة تعطي القوانين والأحوال التي بها يتسدد الذهن نحو الصواب في هاتين المعرفتين، كالعلم بالدلائل وأقسامها، وبأي أحوال تكون دلائل وبأيها لا. وفي أي المواضع تستعمل النقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا. وهذه فلنسمها سبارا وقانونا، فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس في مالا يؤمن أن يغلط فيه. (١)
٣- وبين أن كلما (٢) كانت العلوم أكثر تشبعا، والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور يضطر إليها من تقدمهم، كانت الحاجة فيها على قوانين تحوط أذهانهم عند النظر فيها أكثر. وبين أن الصناعة الموسومة بصناعة الفقه في هذا الزمان وفي ما سلف من لدن وفاة رسول الله ﷺ وتفرق أصحابه على البلاد واختلاف النقل عنه ﷺ بهاتين الحالتين، ولذلك لم يحتج الصحابة ﵃ إلى هذه الصناعة كما لم يحتج الأعراب إلى قوانين تحوطهم في كلامهم ولا في أوزانهم.
_________
(١) يمكن اعتبار التصنيف الثلاثي للعلوم تصنيفا فريدا بالقياس إلى ما ذهب إليه ابن رشد في أعماله اللاحقة على هذا المختصر، وذلك على الرغم من أنه لا يخرج عن التصنيف العام للعلوم إلى نظرية وعملية آلية، وهو ما ذهب إليه ابن رشد مع غيره من المتقدمين.
هذا ولا شك أن القارئ سيستغرب لاستعمال كلمة البركار التي لم يكن الأندلسيون ولا المغاربة يستعملونها ولكنه من جهة أخرى لن يستغرب من استعمالها عند ابن رشد قارئ النصوص الفلسفية المشرقية وقارئ أبي نصر الفارابي.
(٢) في الأصل: وبين أن كل ما.
1 / 35
٤-وبهذا الذي قلناه ينفهم غرض هذه الصناعة، ويسقط الاعتراض على أهل الصدر المتقدم ناظرين فيها، وإن كنا لا ننكر أنهم كانوا يستعملون قوتها، وأنت تتبين ذلك من فتواهم ﵃، بل كثير من المعاني الكلية الموضوعة في هذه الصناعة إنما صححت بالاستقراء من فتواهم مسألة مسألة.
٥- فأما أجزاء هذه الصناعة بحسب ما قسمت إليه في هذا الكتاب (١) فأربعة أجزاء: فالجزء الأول يتضمن النظر في الأحكام، والثاني في أصول الأحكام والثالث في الأدلة المستعملة في استنباط حكم حكم عن أصل أصل، وكيف استعمالها. والرابع يتضمن النظر في شروط المجتهد وهو الفقيه.
٦- وأنت تعلم مما تقدم من قولنا في غرض هذه الصناعة، وفي أي جنس من أجناس العلوم هي داخلة، أن النظر الخاص بها إنما هو في الجزء الثالث من هذا الكتاب، لأن الأجزاء الأخرى من جنس المعرفة التي غايتها العمل، ولذلك لقّبوا هذه الصناعة باسم بعض ما جعلوه جزءا منها، فدعوها بأصول الفقه. والنظر الصناعي يقتضي أن يفرد القول في هذا الجزء الثالث إذ هو مباين بالجنس لتلك الأجزاء الأخرى. ويقتصر من تلك على أحد أمرين:
-إما أن توضع بحسب أشهر المذاهب فيها، وهو ما يراه مثلا أهل السنة.
_________
(١) يقصد كتاب المستصفى
1 / 36
وإما أن يرسم ويعدد الاختلاف الواقع فيها، وتعطى الأحوال والقوانين التي بها تستنبط الأحكام بحسب رأي رأي في تلك الأصول.
وبالجملة كيف لزوم بعض تلك الآراء فيها عن بعض، ومناسبتها للفروع، حتى يقال مثلا كيف يكون الاستنباط على رأي الظاهرية وعلى رأي القائلين بالقياس. وبالجملة بحسب رأي رأي من الآراء المشهورة. وهذا الوجه هو الأنفع في هذه الصناعة، وبهذا النظر يكون لهذا الجنس من المعارف صناعة تامة وكلية وكافية في نظر الجميع من أهل الاجتهاد.
٧-لكن رأينا أن نجري في ذلك على عادة المتكلمين في هذه الصناعة، ونتحرى في تقسيمها الترتيب الواقع في هذا الكتاب (١)، إذ هو أحسنها نظرا وأحرى أن يكون صناعيا، غير أننا سنشير إلى شيء من ذلك الغرض.
٨-ومما تقدم من قولنا يتبين غرض هذا الكتاب، ونسبته إلى سائر العلوم، ومرتبته، وما يدل عليه اسمه، وأقسامه. وهي الجمل النافع تقديمها للمتعلم عند شروعه في الصناعة. ولنبدأ من حيث بدأ.
٩- وأبو حامد قدم قبل ذلك مقدمة منطقية زعم أنه أداه إلى القول في ذلك نظر المتكلمين في هذه الصناعة في أمور ما منطقية، كنظرهم في حد العلم وغير ذلك. ونحن فلنترك كل شيء إلى موضعه، فإن من رام
_________
(١) يقصد كتاب المستصفى لأبي حامد.
1 / 37
أن يتعلم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد لم يمكنه أن يتعلم ولا واحدا منها (١) .
_________
(١) ورد هذا النص في روضة الإعلام ورقة١٤٣ب. أنظر حاشية ص ٢١ هامش رقم (١) من المطبوع. (عبد العزيز الساوري)
وأبو حامد أيضا يؤكد أن هذه المقدمة المنطقية ليست من علم الأصول ومن أراد ألا يثبتها فليبدأ بأول الكتاب. يقول (ص ١٠): «نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان وتذكر شرط الحد الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي وأقسامها على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم.
وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة بل هي مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بمعلومه أصلا. فمن شاء أن لا يكتب هذه المقدمة فليبدأ بالكتاب من القطب الأول فإن ذلك هو أول أصول الفقه وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة كحاجة أصول الفقه» . المستصفى مكتبة المثنى ببيروت،دار إحياء التراث العربي_ بيروت_لبنان. د. ت.
1 / 38
القول في الجزء الأول من هذا الكتاب
1 / 39
صفحة فارغة في الأصل
1 / 40
١٠-وهذا الجزء الأول ينقسم إلى أربعة أقسام: وهي النظر في حد الحكم،وفي أقسامه،وفي أركانه، وفي مظهره.
القسم الأول
١١ - أما حد الحكم عند أهل السنة (١) فهو عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين بطلب أو ترك فإذا لم يرد هذا الخطاب لم تتعلق بالأفعال صفة تحسين أو تقبيح، فيكون الحسن والقبح على هذا ليس وصفا ذاتيا للأفعال. وذهبت المعتزلة إلى أن الحسن والقبيح وصف ذاتي للأفعال، فبعض ذلك مدرك بضرورة العقل كالكذب وشكر المنعم، وبعضه بانضمام الشرع كالطهارة والصلاة لما فيهما مثلا من اللفظ المانع من الفحشاء ومن النظافة. وفائدة معرفة هذا الاختلاف في هذه الصناعة تتصور عند النظر في القياس المناسب والمخيل وجميع أنواعه، وعند النظر في تصويب المجتهدين وتخطئتهم. أما أهل السنة فحجتهم أن الحسن والقبيح يطلق في عرف المتكلمين على معان.
أولها وأشهرها ما يوافق غرض المستحسن أو يخالفه. حتى يستحسن سمرة اللون مثلا واحد ويستقبحها آخر. وهذا أمر إضافى لا كالسواد والبياض الموجودين للأشياء بذاتها.
والثاني ما حسنه الشرع أو قبحه.
والثالث من معاني الحسن ما كان للإنسان مباحا فعله. وكل هذه أوصاف إضافية لا ذاتية. ومعنى ذلك أن ليس للحسن والقبح وجود
_________
(١) يقول الغزالي في هذا الموضع من المستصفى: «عندنا» بدل «عند أهل السنة» كما وردت في مختصر ابن رشد هذا.
1 / 41
خارج العين.
١٢ـ وأما المعتزلة فاستدلوا على أن الحسن والقبح وصف ذاتي للأشياء باتفاق العقل على القول بهما من غير إضافة كحسن الصدق وقبح الكذب، وبالجملة من حيث هذه القضايا مشهورة ومتفق عليها. وظاهر أن الأمور المعقولة قد يلحقها أن تكون مشهورة، وأن ذلك غير منعكس.
١٣ـ والقول في هذه المسألة ليس من هذا العلم الذي نحن بسبيله. ويشبه ألا يكون في واحد من هذين القولين كفاية في الوقوف على هذه المسألة. وقد احتجت المعتزلة على أن مدرك الوجوب في بعض الأمور بالعقل كشكر المنعم وغير ذلك، فإن حصرها في الشرع يفضي إلى إفحام الرسل عند دعائهم إلى النظر، لأنا ما لم نعلم وجوب النظر لم ننظر، وما لم ننظر لم نتحقق دعوى الشارع فيما دعا إليه، وما لم نتحقق دعواه فلا سبيل إلى الإيمان بما دعا إليه سواء كان المدعو إليه، في نفسه حقا أو لم يكن لا سبيل لنا على هذا الوجه إلى حصول العلم به.
١٤ـ وقد ألزم المتكلمون المعتزلة في كون مدرك وجوب النظر عقلا شكا ما، وهو أن وجوب النظر إن كان مدركا عقلا فلا يخلو أن يكون ذلك ضرورة أو اكتسابا، فإن كان (١) ضرورة لم يغفل أحد عن علم الله، وإن كان مكتسبا بنظر انعكس عليهم القول في مدرك وجوب النظر في دعوى الشرع، وذلك إلى غير نهاية.
١٥ـ والذي ينبغي عندي أن يقال في هذا الموضع فهو أن التصديق
_________
(١) في الأصل:. فإن كل.
1 / 42
بدعوى الشارع عند ظهور المعجزة وفق دعواه هو من جنس المعارف الضرورية، وأن التصديق يقع بمشاهدة ذلك اضطرارا أو بوجودها تواترا، وإنما يتصور وجوب النظر أو لا وجوبه في معرفته بنظر واستدلال. وتكلف ما سوى هذا من القول في هذا الموضع تشويش للعقائد أو عناء. ولو أن واحدا واحدا من المدعوين للشرع تكلف مثل هذه الشكوك عند النظر فيما دعا إليه الشرع لكان إيمان كثير من الناس مما لا يقع، ولو وقع لكان في النادر. وبالجملة فكأن يكون دعاء الله الناس إلى الإيمان بالشرع بمثل هذه الطرق في حق الأكثر من باب تكليف ما لا يطاق. وليس يلزم من كون المعرفة بذلك ضرورية ألا ينفك عن الإقرار بها أحد، فإنه كما أنه ليس من شرط المتفق عليه أن (١) يكون ضروريا كذلك ليس من شرط الضروري أن يكون متفقا عليه. وهذا كله ليس من هذا العلم (٢) .
١٦ـ أما من ذهب من المعتزلة إلى أن الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة فإنما أرادوا بذلك ما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح. ومن قال منهم أنها على الوقف فأراهم رأوا ذلك فيما لا يدرك من الأفعال الحسن والقبح فيه إلا بانضمام الشرع إلى العقل، كما تقدم من آرائهم.
وأما من قال من الناس إنها قبل ورود الشرع على الحظر فقول لا معنى له، وهو بين السقوط بنفسه (٣) .
_________
(١) في الأصل: لأن.
(٢) وقريب من هذا ذهب إليه في الفصل والكشف والتهافت وفي غيره من شروحه الفلسفة الأخرى.
(٣) ينسب المستصفى هذا الرأي الأخير إلى المعتزلة أيضا لا إلى الناس هكذا بغموض وإطلاق كما فعل ابن رشد.
1 / 43
القول في القسم الثاني من الجزء الأول
١٧ـ وهو يتضمن النظر في أقسام الأحكام وحدودها ومسائل تلحقها فنقول:
إن الحكم، وهوالذي تقدم رسمه، ينقسم إلى طلب وترك أو تخيير فيهما وهو المسمى مباحا. والطلب ينقسم إلى واجب وندب، والترك ينقسم إلى محظور ومكروه.
وحد الواجب أنه ما ورد خطاب الشرع بترجيح فعله مع توعد بالعقاب على تركه من حيث هو ترك له بإطلاق، وإنما زدنا في الحد قولنا: مع توعد بالعقاب على تركه، لأن الواجب على مذهب أهل السنة لا يتصور دون الضرر أو النفع، وزيادتنا فيه أيضا: من حيث هو ترك له بإطلاق، تحفظا من الواجب المخير.
والتوعد بالعقاب ربما ورد قطعا وربما ورد ظنا. وأصحاب أبي حنيفة يخصون الأول باسم الفرض والثاني باسم الواجب، ولا مشاحة في الأسماء إذا فهمت المعاني. وحد الندب أنه المرجح فعله من غير توعد بالعقاب على تركه. ومن حد الواجب نقف على حد المحظور لأنه مقابله، وكذلك من حد الندب نقف على حد المكروه. وحد المباح ما دل الشرع على التسوية بين فعله وتركه، وذلك إما أن يرد الخطاب بالتخيير فيهما، أو برفع الحرج عنهما أو يدل دليل العقل أنه على البراءة الأصلية بعدم الدليل الشرعي على تعلق حكم به، على ما سيأتي بعد.
فصل:
١٨- والواجب ينقسم إلى معين وإلى مخير بين أقسام محدودة، وذلك إما في الفعل وإما في الزمان. ويسمون الغير معين الفعل بين أقسام
1 / 44
محدودة الواجب المخير، والغير معين الزمان الواجب الموسع (١)
١٩- وقد أنكرت المعتزلة جواز مثل هذا الواجب عقلا ووقوعه شرعا، وقالوا إن كانت الخصال الثلاث في الكفارة مستوية في الصفة بالإضافة إلى صلاح العبد، فينبغي أن يوجب الجميع لتساويها في صلاح العبد، وهذا مبني على رأيهم في الصلاح والأصلح. وأيضا فلو سلمت لهم هذه القاعدة للزمهم نقيض ما وضعوا، وهو أنه إذا كان كل واحد منهما مساويا لصاحبه في وقوع الصلاح به فاستعمال جميعها عبث، وكذلك استعمال واحدة منها على التعيين، وهم لا يجوزون مثل هذا على الله، وكأنهم لم يتحفظوا بأصولهم في هذه المسألة، واحتجوا أيضا بأن علم الله متعلق بالذي يأتي العبد منها فهو متعين ضرورة في نفسه، ولا يتصور في هذا تخيير.
٢٠- والكلام في هذه المسألة ليس من هذا العلم الذي نحن بسبيله، بل يكفي من ذلك ههنا أن نقول: إن وقوع مثل هذا شرعا موجود كخصال الكفارة، وانعقاد الإجماع على اتباع
أوقات أكثر الصلوات. والذي أنكرت المعتزلة يلزمهم مثل ذلك في المباح، وبالجملة يلحق هذا الاعتراض الممكن بما هو ممكن.
٢١-وقد دفع بعض الفقهاء تسمية مثل هذا واجبا، وقالوا إنما يتصف بالوجوب في الزمان آخر الوقت، إذ فيه يقع العقاب على ترك إيقاع الصلاة فيه. ومثل هذا الاعتراض يلحق الواجب المخير، إلا أن
_________
(١) إدخال أداة التعريف على «غير» خطأ نقف عليه في جميع مخطوطات مؤلفات ابن رشد على اختلاف تاريخ نسخها ونساخها مما يدل على أنها وردت كذلك في الأصول القديمة. ولعلها أن تكون من بين العلامات التي تفيد في نسبة هذا المختصر إلى فيلسوف قرطبة ومراكش.
1 / 45
تعدم الخصلتان فحينئذ يتصور وجوب الثالثة. والذي ينبغي أن يقال في مثل هذا أنه يشبه الوجوب من جهة، والندب من أخرى. أما شبهه للوجوب فلأنه يرتفع الفرض بالصلاة في أول الوقت، وأما شبهه بالندب فما ذكر في الاعتراض.
٢٢-وهذه المنازعة لفظية، ولذلك سمي الواجب الموسع، وهو أيضا يفارق الندب من جهة أن تركه إنما يكون بشرط العزم على إتيانه مع الذكر، إذ كان اعتقاد الترك مطلقا حراما.
فصل:
٢٣-وكذلك اختلفوا فيما لا يتم الواجب إلا به هل يسمى واجبا. ووجه القول فيه أن هذا ينقسم إلى ما ليس للعبد في فعله اختيار كالقدرة على المشي مثلا، فهذا لا يوصف بالوجوب بل هو من شرط تكليف الوجوب، أو إلى ما للعبد في فعله اختيار، وهذا فينبغي أن يتصف بالوجوب كالطهارة المشترطة في الصلاة. وكأن وجوب مثل هذا إنما هو من أجل غيره لا من أجل ذاته، فتنشأ ههنا قسمة أخرى للواجب وهو أن منه ما هو واجب من أجل غيره ومنه ما هو واجب بذاته. والواجب أيضا ينقسم إلى ما يتقدر بقدر محدود وإلى ما لا يتقدر بقدر محدود، كمسح الرأس والطمأنينة في الركوع، والواجب من هذا هو أقل ما ينطلق عليه الإسم ويبقى الباقي ندبا،وهذا إنما يتصور فيما وقع من الأفعال متتابعا أو متشافعا،وبالجملة ما لم تقع أجزاؤه معا.
٢٤-فهذا هو القول في تحديد أنواع الأحكام وتقسيمها،وقد بقي القول في مسائل كلية تلحقها.
1 / 46
فأول مسألة منها أنا نقول،إذا مات المكلف في أثناء الوقت ولم يقض لم يمت عاصيا بإجماع السلف على ذلك. وقول من أثمه خطأ، فإنا نعلم قطعا أنهم كانوا لا يؤثمون من مات وقد مضى من الوقت مقدار ما تقع فيه الصلاة. فإن قيل فكيف يجوز الترك مع العزم وهو لا يعرف سلامة العافية، قلنا لا يجوز الترك مع العزم إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها، كما يجوز للمعزر أن يضرب إلى حد لا يغلب على ظنه الهلاك. ولذلك قال أبو حنيفة ﵀ لا يجوز تأخير الحج إلى سنة لأن البقاء إليها لا يغلب على الظن. وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر أو شهرين فجائز. والشافعي ﵀ يرى البقاء إلى سنة غالبا على ظن الشباب.
مسألة ثانية:
٢٦-الأحكام تنقسم إلى واجب كما تقدم،ومقابله في الطرف الأقصى المحظور،وهو الحرام، وبينهما متوسطان،وهما (١) الندب والمكروه. وبين أن المتقابلات التي بينها متوسط ليس يلزم (٢) عن رفع أحدهما وجود الآخر، فلذلك أخطأ من زعم أن الوجوب إذا نسخ رجع إلى ما كان قبل من حظر. وإنما يكون ذلك لو لم يكن بين الواجب والحرام واسطة. وأبين من هذا أن يرجع إلى ما كان قبل من إباحة، إذ ليس يتضمنها جنس هذه المتقابلات الذي هو الطلب.
٢٧-وهنا يتبين (٣) سقوط قول من قال المباح مأمور به. وكذلك
_________
(١) في الأصل: وهو.
(٢) في الأصل: يلز.
(٣) في الأصل: نبين.
1 / 47
يتبين أنه ليس من التكليف، إذ التكليف طلب ما فيه كلفة. ومن سماه تكليفا وذهب في ذلك إلى أنه الذي كلفنا اعتقاد إباحته في الشرع، أو أنه الذي اعتقاد كونه من الشرع، فهو مستكره في التسمية. وبالجملة فهذا النظر لغوي وهو أليق بغير هذا الموضع، ومما تقدم أيضا من هذا القول يتبين أن المندوب مأمور به إذ هو طلب ما واقتضاء. فأما من زعم أن الأمر إنما يطلق على ما في تركه عقاب، فهي دعوى لغوية، وعلى مدعيها إثبات ذلك عرفا شرعيا أو وضعا لغويا.
٧٦ /١ مسألة ثالثة: الحرام ضد الواجب
٢٨ - وإذا كان حد المتضادين أنهما اللذان لا يجتمعان في شيء واحد بالعدل في وقت واحد من جهة واحدة، فلا يجوز في الشرع تعلق الحظر والإيجاب بشيء واحد من جهة واحدة في وقت واحد. فأما تعلقهما بشيئين أو في وقتين فذلك ما لا خلاف فيه، ولا يرجع النهي عن أحدهما على الثاني بالفساد، سواء كان ذلك في شيئين أو في زمانين. وكذلك يلزم إذا تعلق النهي والإيجاب بشيء واحد من جهتين مثل أن يرد الأمر بشيء مطلقا، ثم يرد النهي عن ذلك الشيء بعينه مقيدا بصفة أو لعلة مصرح بها. إلا أنهم اختلفوا في مثل هذا الجنس هل يعود النهي بالفساد على الأصل الموجب من جهة ما قيد؟ فزعم أبو حامد ﵀ أن هذا ينقسم عندهم إلى ما يرجع إلى غير المنهي لسبب من خارج، وإلى ما يرجع إلى صفة في الشيء. فما يرجع إلى غير المنهي فلا يرجع على الأصل بالفساد، وأما الذي يرجع إلى صفة في المنهي عنه فذهب الشافعي إلى أنه يعود على الأصل بالفساد، وحيث أوقع الطلاق في الحيض صرف إلى الأضرار ألحقه بالقسم الأول. وأبو حنيفة لا يرى في الموضعين النهي يعود بفساد الأصل، سواء ورد المنهي عنه مقيدا
1 / 48
بصفة أو سبب من خارج، وزعم أن كون الحدث مبطلا للصلاة إنما ثبت بدليل الإجماع.
٢٩- وأنا أرى أن النظر في هذه المسألة إنما هو من جهة صيغة لفظ النهي، فإن من يدل عنده لفظة إيجابه مطلقا قرينة تخرج النهي عن الحظر إلى الكراهة (١) وأكثر من ذلك وروده في شيء لأمر ما من خارج بعد إيجاب ذلك الشيء مطلقا، وسنتكلم في هذا فيما بعد. وأما إذا نظر فيها حيث المعنى،فإن ورود النهي عن الشيء مقيدا بأمر ما،سواء كان سببا أو صفة،بعد إيجابه مطلقا فإنه يعود على الأصل بالفساد من جهة ما هو مقيد. والذي فهمت هنا من ورود النهي عن الشيء مقيدا بعد إيجابه مطلقا،هو بعينه ينبغي أن تفهمه في ورود الإيجاب بشيء ما مقيدا بعد النهي عنه مطلقا.
٣٠-والعجب من أبي حامد كيف جعل النظر في هذه المسألة في هذا الجزء من هذا الكتاب.
٣١-وأما من أجاز الصلاة في الوادي والحمام وأعطان الإبل فإنما ينبغي له أن يصرف النهي الوارد فيها عن التحريم إلى الكراهة، على مذهب من يرى أن ورود النهي عن الشيء مقيدا بأمر ما من خارج بعد إباحته،أو الأمر به مطلقا،قرينة يخرج بها لفظ النهي عن التحريم إلى الكراهة،هذا إذا كان ممن يرى أن صيغة النهي تقتضي التحريم، وأما من لا يرى ذلك فالأمر عليه سهل. وأما من أبطل الصلاة في الأرض المغصوبة لكونها حركات وأكوانا منهيا (٢) عنها،فلجهله بحدود
_________
(١) نقص في العبارة نترك تأمله لاجتهاد القارىء.
(٢) في الأصل: منهية
1 / 49
المتضادة،لأن الإيجاب والنهي تعلق بها من جهتين مختلفتين. ولذلك ما وقع إجماع الصحابة ﵃ على ترك أمر الظلمة بإعادة الصلوات عند التوبة. وتلك الحركات والأكوان هي من جهة مأمور بها،ومن جهة منهي عنها. وكذلك السجود بين يدي الصنم على غير جهة القصد هو من جهة حرام،ومن جهة متقرب به.
مسألة رابعة:
٣٢-اختلف الناس في وجوب الشيء هل هو حظر لضده،وحظره وجوب لضده، فنقول:
٣٣-إنه إذا حد المتضادان بحسب حدهما، ولم يسامح في تسميتهما،فوجوب الشيء حظر لضده،لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما تقدم،وسواء كان ذلك فعلا أو تركا. وهذه المسألة إنما تتصور في التضاد الشرعي. وأما التضاد المحسوس فهو مما لا يصلح التكليف إلا بتركه،وهو من شروط الفعل.
٣٤-وأما المحظور فإذا كان مما كان ليس له ضد،أو مما له ضد إلا أن بينهما متوسطا،فليس يلزم عن حظره إيجاب شيء ما. وأما إذا كان لا يخلو الشيء من أحدهما، ولم يكن بينهما متوسط،فحظره إيجاب لضده،هذا أيضا إذا كان التضاد شرعيا،وأما إذا كان حسيا فهو من شرط التكليف.
٣٥- فعلى هذا ينبغي أن يتناول السؤال والجواب في هذه المسألة. وهنا انقضى القول في القسم الثاني من هذا الجزء.
1 / 50
القول في القسم الثالث من الجزء الأول
٣٦-هذا القسم يتضمن النظر في أركان الحكم،وهي ثلاثة: الحاكم،والمحكوم عليه،والمحكوم فيه.
٣٧-أما الحاكم فهو المخاطب بالإيجاب. ومن شروطه،مع كونه متكلما،نفوذ الحكم على الإطلاق. وإنما يصح ذلك بين المالك والمملوك والخالق والمخلوق،وهو تعالى. وكل من لزمت طاعته فإنما لزمت بإيجاب الله تعالى كالسلطان والأب وما أشبههما. وهو القادر على العقاب والثواب إذ لا يتصور الإيجاب أو النهي من غير قادر عليهما. وتثبيت هذا في علم الكلام.
٣٨_وأما المحكوم عليه فله شرطان هما (١) أن يفهم الخطاب الوارد بأمر أو نهي، إذ من ليس يفهم الخطاب لا يصح منه اقتضاء وجوب الطلب. فإن قيل فقد وجبت الزكوات والغرامات على الصبيان، قلنا المكلف هو. الولي بشرط الاستعداد لقبول العقل. وكذلك أخذهم بالصلاة قبل البلوغ، الأب هو المأمور بذلك، لا يفهم خطاب الشرع إلا من يعرف الشارع، ولا يعرف الشارع إلا من يعرف الله، وهذا الشرط مدركه العقل. ومن هنا يتبين سقوط تكليف الناسي والغافل والمجنون والسكران. فإن قيل فكيف يقع طلاق السكران عند من يجوزه؟ قلنا ذلك على جهة التغليظ، إذ كان هو الذي جنى على نفسه باختياره بعد شرط التكليف وهو العقل. وليس يتصور مثل هذا في المجنون، وتعلق من تعلق في جواز خطابه بقوله ﵎: ﴿لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى﴾ فإنه إن سلم ظهور ذلك في
_________
(١) في الأصل: منهما.
1 / 51
الآية فليس يصادم بالظواهر القطعيات. ولها تأويلات:
٣٩ _أحدهما أنها خطاب مع المستثنى.
٤٠ _والآخر أنه إنما وقع المنع من إفراط الشرب في أوقات الصلاة،وذلك خطاب في وقت الصحة،وقبل أن تحرم الخمر.
٤١-فأما الاعتراض الذي يلحقون هنا وهو كيف يكون الله آمرا في الأزل لعباده ومن شرط الآمر أن يكون المأمور موجودا،وكذلك كونه آمرا للسكران في حال سكره وللمجنون والصبي،على شرط أن يفيق ذلك ويصح ذلك ويبلغ هذا،فالجواب عنه ليس مما يمكن في هذا الموضع،ولا هو خاص بهذا النظر. والقول فيه مبني على قواعد تحتاج إلى تمهيد طويل وفحص كثير. وكما قلنا أنه ليس ينبغي أن نفحص عن كل شيء ولا عن أشياء كثيرة في موضع واحد،بل ينبغي أن يفرد بالقول كل واحد منها في الموضع اللائق به،والذي يحمل على هذا حب التكثير بما ليس يفيد شيئا.
٤٢-وأما الشرط الثاني فهو البلوغ،وهذا الشرط مدركه الشرع. فإن قيل فقبل أن يحتلم الصبي بزمان يسير أليس هو عاقلا؟ فإن انفصال النطفة عنه لا تزيده عقلا؟ قلنا: لما كان ذلك مما يخفي دركه في شخص،ويختلف وقته، نصب الشرع لذلك علامة توجد على الأكثر دالة عليه.
٤٣-وأما المحكوم فيه وهو الفعل فإنه ما جاز كونه مكتسبا للعبد باختياره مع اعتقاد اكتسابه طاعة وامتثالًا.
٤٤-وينبغي أن يعلم أن الأمور المتكسبة للإنسان هي التي له أن يأتي منها أي الضدين شاء،مثل أن القيام مكتسب له وله أن يقوم أو
1 / 52