قضائه وتقديره، وبين أمرِه ونهيه، بما قرّرناه من التَصرُّفين التكليفيّ والتكوينيّ. وحينئذٍ، لا يلزم بين قضائه وعدم رضاه التكويني. فيجوز أن يَقضي تقديرًا، ويَرضَى تكوينًا. وأنتم عندكم أنّ الإِنسان مُوجدٌ لأفعاله، مع أنّ العقل لا يُقبح منه أن يقتل ولده أو قريبَه. ولمصلحةٍ راجحةٍ لنفسه، فهو يَرضَى بذلك عقلًا، لا طبعًا. وقد قَتَل قيسُ بن زُهَيرٍ العبسي بني بدرٍ، وهو بنو عمّه؛ لأنّه رأى مصلحتَه في قتلِهم، مِن حيث آذَوْه وناصَبوه العدواةَ، وإِن كان عليه فيه مفسدةٌ، مِن حيث إِنهم بنو العمّ والعشيرةُ، فنقَّص بهم عددَه. ولهذا كان الناسُ يَدخلون عليه، فيُهنؤنه بإِدراك الثأر، ويُعَزُّونه بمصيبته في بني عمّه. وقال شعرًا تَضَمَّن الأمرين، وهو قوله:
شَفَيتُ النفسَ مِن حَمَل بن بدرٍ .. وسيفي مِن حُذيفة قد شَفاني
فإِن أَكُ قد بَرَدْتُ غَليلي .. فإِنى قد قَطَعتُ بهم بَناني
فما النامع من أن يكون الله سبحانه يَرضَى بالكفر وجودًا وكَونًا، ولا يَرضَى به عبادةً ودِينًا؟ يَرجع حاصلُ الأمرِ إِلى أنّ الكفَر في الرَضَا به من ذَوات الجهتين، خصوصًا على مذهب المعتزلة في وجوب رعاية المصالح. فلعل في خلقِه الكفرَ مصلحةً لخلقِه وليس ذلك بأبعد مما يَلزمهم على هذا الأصل، وقد التَزَمه بعضُهم، مِن أنّ دخول الكفّارِ النارَ مصلحةٌ لهم. وإِذا كان دخولهم النارَ مصلحةً لهم، مع أنّ الله سبحانه قادرٌ أن يعفيهم منه، فخلقُ الكفرِ فيهم أَولى بجواز كونِه مصلحةً؛ لأنّه سببٌ لدخولهم النارَ وإِذا كان المسبب مصلحةً، فالسبب كذلك، وأولى؛ لأنّه لا تَتَوصُّل إِلى المسبب إِلاّ به.
قوله، ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾. قلنا: صَدَق اللهُ. لكنّ "قَضَى" لفظٌ يُطلَق بمعانٍ. "فقضى" بمعنى "أَمَرَ"؟ أو بمعنى "حَكَمَ وقَدَّرَ"؟ الأوّل مُسلمٌ، والثاني ممنوعٌ فالله سبحانه أَمَرَ خلقَه أن لا تَعبدوا غيره وحَكَم وقَدر على بعضهم أن يُشرِك به. وقد بيّنّا أنّه لا تَنافي بين أمرِه وتقديره باعتبار ما استِحقّه من تَصرفيه المذكورين قبلُ.