وكأني بك أيتها المركيزة وقد جهلت أن هذه الدار شقاء، وأن ليس لسعادة فيها بقاء:
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
فيا ليتك لم تستعذبي طعم الهناء؛ حتى لم تستعظمي مرارة الشقاء، بل ليتك لم تخطبي ود هذه الدار؛ فطبعها غدار، ويا ليتك قنعت بالعزلة في الديور، فما وراء معاشرة الناس إلا الويل والثبور، ولكن قدر الله فكان، وما لمخلوق أن يعاند ما قدره الرحمن.
ومل المركيز من سعادة تأتيه في المساء بما تأتيه في الصباح، وفطر الإنسان على حب التنقل حتى في السعادات، ألا قتل الإنسان ما أكفره! فأسف المركيز على لهو الشباب والتقلب في اللذات بين الأصحاب؛ فعاد إلى هواه القديم، ونسي أن بجانب زوجه النعيم المقيم.
ولا تلومن فتاة تركها زوجها إن تركته، أو أهمل شأنها إن أهملته؛ فإن المركيزة لما تولى حب زوجها الغير هجرته وقصدت المحافل والمآدب حيث يقدرها الناس قدرها ولا يهمل المعجبون بها أمرها؛ فثارت لذلك غيرة المركيز، ولكنه خشي أن يصبح أمثولة في الناس أن تعرض لزوجها في ائتلافها بهم؛ لأن مجالس النساء الأديبات كانت في ذلك الحين مجتمع أهل الفضل والآداب من العلماء والكتاب. فكتم المركيز أمره، ولكن لم يطق صدره أن يحمل سره، فصار كلما خلا إلى زوجته يوجعها بقارص الكلام ويذيقها من معاملته أشد الآلام، فحل الكدر محل الصفاء، وعقبه الهجر بعد الوفاق؛ فأصبحت المركيزة لا ترى زوجها إلا في ساعات معدودات لا مندوحة لهما فيها عن اللقاء. ثم ما لبث المركيز أن أصبح يحتج بأسفار تضطره للغياب، ثم صار يغيب دون أن تبدو لغيابه أسباب، وهكذا مضت على المركيزة تسعة شهور لم تر لبعلها فيها وجها أو تعلم له ميعاد أوبة.
وقد أجمع الكتاب على أن المركيزة صبرت على هجر زوجها وسوء عشرته صبر أولي العزم؛ فلم يبد عليها ملل أو انكسار، وقلما أجمع الجمهور على الشهادة بمثل ذلك على إحدى بنات حواء.
وكان المركيز لما مل من معاشرة زوجته دعا لمنزله شقيقين له أحدهما فارس والآخر راهب، وكان له أخ ثالث أميرالاي في فرقة لنجدوك، إلا أننا أهملنا ذكره في هذه القصة؛ لأنه لم يتداخل في حوادثها ، ولم يشترك في مكائدها.
ولم يكن الراهب في الحقيقة من رجال الكهنوت؛ إنما اتخذ هذا اللقب ليتمتع بما له من المزايا بين الناس، وكان به لمحة من الجمال، وقطرة من الذكاء، وله اشتغال في أوقات الفراغ بنظم الشعر وتسجيع الكلام، وكان إذا غضب انبعثت من عيونه بروق تدل على قساوة في الطبع وغلظ في القلب، وكان مع ذلك ميالا للذات مستعبدا للشهوات، لا يخشى منكرا ولا ينفر عن معصية، كأنه حقيقة من رجال الدين في ذلك الحين.
أما الفارس فكان له نصيب أيضا من هذا الجمال الذي اختصت به عائلته، إلا أنه كان عديم الإرادة خمول الذكر، من أولئك الناس الذين يفعلون ما يؤمرون، ولا يدرون أخيرا أم شرا يفعلون؟ وهكذا كان الفارس آلة في يد أخيه الراهب؛ يأتمر بأمره ويسمع لمشورته، ولا يستطيع أن يصرف نفسه عن اتباع أوامره، بل يعجز لضيق فكره أن يدرك مغزاها أو مرماها، فكان ينفذها كالآلة الصماء؛ ولذا كان ضرره أشد مما لو كان يدرك ويعقل.
Halaman tidak diketahui