صدق الله العظيم.
الفصل السابع
كان لا بد لزين العابدين أن يعود إلى القرية بعد أن أقام أكثر من شهرين في القاهرة فصحب زوجته وعادا، وهناك علم بما ألم بالشيخ والي من فقد زوجته وإنجابه؛ فما استراح من السفر وإنما ذهب إليه، واستقبله الشيخ في وجه جامد فيه من الحزن أكثر مما فيه من الراحة. ولم يكن زين العابدين يدري هل الأجدر به أن يهنئ الشيخ والي بمولوده الجديد، أم يعزيه على فقد زوجته؟ ولم تطل به الحيرة؛ فقد اختار آخر الأمر أن يجري الحديث في مجال آخر بعيد كل البعد عن التهنئة أو التعزية، وإن كان هذان المعنيان يملآن رأسه ويختلطان في وقت معا بأفكاره، فهو عاجب كيف يختلط أمران متنافران كل التنافر في وقت واحد بتفكيره؟! كيف يأتي عليه حين من الزمن لا يدري أيهما الأجدر به؛ تهنئة، أم تعزية؟ كيف تداعب الأقدار حياة الناس إلى هذا الحد فتجعلها خليطا من الفرح والحزن، ومزاجا من الهناءة والأسى؟! ولم تشغله حيرته هذه عن أن يروي على الحاج والي ما شهده في القاهرة من آثار الثورة. والحاج والي يشارك في الحديث متعجبا قد أخذته الأنباء عما يعانيه من مشاعر مختلطة، ولكنه في أعماقه ما يزال يعاني آلاما حادة مما لقيه في سبيل تحقيق آماله، حتى كاد يستقر في نفسه في يوم ما أنه هو المسئول عما عانته زوجته من آلام، ولولا الحاجة بمبة وما أخذت تروضه به من حديث؛ لأصابه التلف وعجز عن مواجهة الحياة. ليس ينسى كيف احتضنت الوليد وراحت ترعاه رعاية أم، بل ليس ينسى كيف أبت أن تترك جد حسين وجدته يأخذانه، وكيف بعثت إلى نفسه الرضا والطمأنينة. إنه حين يقوم بشأن حسين سيرضي روح هذه التي ضحت بحياتها وهي تهب له أعز أمنية تمناها في حياته. وليس ينسى كيف راحت تقول لسيدة أم عسل وزوجها محمدين إن حسينا سيكون لها بمنزلة الابن وهي التي لا ولد لها. ليس ينسى الحاج والي شيئا من هذا، وكيف له أن ينسى أنه بهذه اليد الكريمة التي تولته بها الحاجة بمبة استطاع أن يعود إلى الحياة، واستطاع أن ينظر إلى طفله الوليد وقد كان يرى فيه جريمة ارتكبها ليس لها من غفران؟ وكان يتصور نفسه أزهق روحا بشرية ليحقق أمله هذا! استطاع - ويد الحاجة بمبة تمسح نفسه الهالعة - أن ينظر إلى ابنه محمد، وأن يحمله ويهدهده، بل استطاع أن يفرح به، واستطاع أن يعود إلى الناس، وأن يجلس هذه الجلسة التي يجلسها إلى زين العابدين فيسمع منه ويجيب، فلا يذهل عن حديث يلقى إليه إلا لحظات قلائل ثم يعود إلى ما كان فيه من حديث.
وألقى زين العابدين حمله؛ فأفرغ كل ما كان في جعبته من حديث. وكان لا بد للحديث أن ينتهي وسكت زين العابدين، وظل رانيا إلى الحاج والي تواجهه فيه حيرته مرة أخرى؛ أيعزيه أم يهنئه؟ ولم يكن زين العابدين مداورا، فالتقى بحيرته في خط مستقيم. - حاج والي ... أنا حائر فيما أقوله لك ... - وأنا والله يا بك حائر فيما وقع لي. - أأعزيك أم أهنيك؟ - أنا أيضا لا أدري يا زين العابدين بك. - أنت تعرف أني حزنت لك، وفرحت لك أيضا! - أعرف. - ثم سعدت بما سمعته عن بقاء حسين عندك. - أتتصور أن الحاجة هي التي ألحت في إبقائه؟! - الست التي تخطب لزوجها لا يستغرب عليها شيء! - إنها ست صالحة يا زين العابدين بك. - إنها من أعظم نعم ربنا عليك يا حاج. - وماذا فعلت مع الدكتور نجيب محفوظ؟ - كل خير. - ماذا؟ أصحيح ما تقول؟ - والله إلى الآن لسنا متأكدين، ولكن الغالب أن يكون الله قد جبر خاطرنا. - إن شاء الله يا سعادة البك، إن شاء الله. أرأيت؟ ألم أقل لك قبل سفرك إن أحدا لا يعلم الغيب إلا الله؟ أرأيت؟ ألم أكن محقا؟ والآن ألا ترى معي أن تضم يدك بعض الشيء؛ لقد أصبحت مسئولا الآن. - أجعلتني مسئولا من الآن يا حاج والي، ونحن لم نتأكد بعد؛ هل هناك حمل أم لا؟ - يا زين العابدين بك أنت أكثرت من البيع؛ كم فدانا بقيت لك؟ - سبعون. - لا أظنها تكفي مصاريفك. أرجوك كف عن البيع. - والله يا حاج والي إن كانت زوجتي حاملا حقا؛ فإنني أعاهدك أنني لن أبيع بعد ذلك أبدا إلا ... - إلا ماذا يا سعادة البك؟ - إلا لأسدد الدين ... ثمن خمسة أفدنة أو ستة. - أنا أسدد الدين وأشتري الأرض، ولا تبع بعد ذلك. - هو ما تقول. إن حقق الله الآمال؛ فلن يكون إلا هذا. - على بركة الله. - على بركة الله. وحسين هل يذهب إلى الكتاب؟ - والله يا سعادة البك إنني أخاف أن أحسد هذا الولد؛ ذكي جدا ويحفظ بسرعة، وسيدنا يمدحه دائما. - أنت رجل طيب يا حاج. - قالت الحاجة إنك ستعلم ابنك، ولا يصح أن يكون أخوه غير متعلم.
وإن جئت للحق يا زين العابدين بك أنا منذ حادثة الإنجليز معي وأنا أتمنى أن أعلم أبناء مصر جميعا، وقد أرضاني الله فجعل لي بدل الولد ولدين. - قواك الله. - إلا أن حسينا لا يجعلني أهتم بشيء له أبدا؛ إنه حريص على ألا يشغلني بنفسه أبدا. - طبعا شعوره بأنك تتفضل عليه. - إنه يفضي بدخائله للحاجة، وهي تعامله وكأنها ولدته.
وقبل أن يكمل جملته مر حسين بباب الغرفة، فاستدعاه الحاج والي. يا حسين، تعال.
ودخل الطفل إلى الحجرة في أدب هادئ وديع، والدمعة ما تزال منسابة من عينه، وأمره الحاج والي أن يسلم على زين العابدين فسلم، ثم مسح دمعته بيده وانتظر لحظة فسأله زين العابدين: إلى أين بلغت في القرآن؟ - إلى أول جزء عم. - اجلس واتل علينا شيئا مما تحفظ.
ولم يتوان حسين، فاتخذ مجلسه على الأريكة، وخلع نعليه وفي صوت طيب راح يقرأ في خشوع.
الفصل الثامن
أشرقت الفرحة على بيت زين العابدين إشراقة لم يكن البيت يتوقعها، بل كان سيد البيت أبعد الناس عن التفكير في أن أمله هذا قد يوافيه التحقيق. ومن أين؟ وقد مرت بزواجه السنوات الطوال، ومحاولات زوجته لا تقف على طول هذه السنوات، وما كانت إطاعته لها في الذهاب إلى الطبيب إلا إذعانا يائسا ؛ فما كان يحب أن يتعلق أملها بشيء ويقصيها عنه. ومن حيث لا يحتسب أشرق الأمل وتحقق، وأنجبت له زوجته ابنة! نعم ابنة. وما غض من فرحته أن الوليد بنت وليست ولدا، إنما أحس الفرحة كاملة لا ينتقص منها شيء. حين حمل الفتاة وأحس خفق قلبها بين يديه، وسمع صراخها العريض؛ أحس أن الله قد وهب له حياة ثانية يمسكها بين يديه، بل أنه أحس أنه يمسك الحياة كل الحياة بين يديه. وحين سرى هذا المعنى في كيانه وأحس به في أعماقه ليتملكه جميعا؛ أحس دموعا عجيبة تطفر إلى عينيه كأنها فيض فرحة لم يتسع جسمه الصغير على ضخامته أن يتسع لها. وأقسم بينه وبين نفسه أن يهيئ لهذه الفتاة من غدها خيرا، وأقسم بينه وبين نفسه أن يكبح جماح شهواته حتى يبقي من المال ما يرد الحاجة عن هذه الطفلة الصغيرة التي ما تزال تسعى في الهواء على أربع نحو مستقبل جديد. وكالعابد قد أتم طقوسه أعاد زين العابدين الوليدة إلى أمها، ثم قبل الأم وقبل الوليدة، وخرج من الحجرة، ثم خرج من البيت، ونظر حواليه، ونظر إلى السماء، ودارت عيناه ودارتا، فوجد الطيور على أعراف الشجر مستقرة الجلسة مطمئنة هادئة كشأنها دائما كلما اتخذت من أعراف أشجاره مكانا لها. وفي هذه المرة لم يعجب للطيور مقيمة على أشجاره على رغم الأجنحة التي تتمتع بها، بل عجب من نفسه كيف كان يريدها أن تظل سابحة في السماء لا تراح إلى عش مطمئنة، ولا تستقر إلى بيت آمن كأشجاره هذه. وأنعم زين العابدين النظر فيما تخفيه أعراف الشجر عن العيون، وأنعم، حتى إذا رأى عشين متواريين بالأوراق انشرح صدره وأحس بالسرور والفرح والاطمئنان يشيع في نفسه جميعا.
Halaman tidak diketahui