نعم، أودع الله في الإنسان ميلا أقوى من كل ميل، وهو أخص خاصة فيه يمتاز بها عن غيره من الأنواع، وهو (حب المحمدة الحقة وحسن الذكر من وجوه الحق)، أقول هذا تفاديا من حب المحمدة من أي وجه، حقا كان أو باطلا، وطلب الثناء بالزور والغش والرياء، والظهور بمظاهر الأخيار، مع تبطن سرائر الأشرار، فإن هذا من أسوأ الخلال، وإنما يعرض بعد اعتلال الفطرة وفساد الطبيعة.
المحمدة هي الغذاء الروحاني، والمقوم النفساني، وكلما قرب الشخص من الكمال الإنساني تهاون بالشهوات أو ازدرى باللذائذ الحسية، وقوي فيه الميل إلى المحمدة الباقية، وبذل الوسع فيما يفيدها من جلائل الأعمال، تأمل، إن الفاضل يرى له في هذا العالم أجلين، أقصرهما الأجل المحدود من يوم ولادته إلى نهاية العمر المقدر، والآخر أبعد من هذا نهاية، وبدايته عندما ينجم من عمله الصالح أثر لمنفعة تشمل أمته أو تعم النوع الإنساني، وغاية هذا الأجل عندما يمحى أثره من ألواح النفوس وصفحات التاريخ، فللروح الفاضلة وجودان: وجود في بدنها الخاص، ووجود في جميع الأبدان، وهو ما يكون بحلولها من كل روح محل الكرامة والتبجيل، ولا ريب أن هذا الأجل الطويل، وهذا الوجود العريض؛ خير من ذاك الأجل القصير، وذاك الوجود الكز،
1
وحقيق بالإنسان أن يبيع ما هو أدنى بالذي هو خير.
يطول بي الكلام فأقصر، إن الله الذي وهب كل نوع ما به كماله، وضع في جبلة البشر ميلا إلى الحمد، وألهمهم تأدية حقه لمستحقه، ألم تر انطلاق الألسن في كل أمة بالثناء على كل من كان سببا لها في مجد ورفعة، أو نهوض من سقطة، أو توحيد كلمة، أو تجديد قوة، أو كمال في فضيلة، أو تقدم في علم أو صنعة، ويرسمونه في الألواح، ويسجلون مدحته في بطون التواريخ، ويرفعون له الهياكل والتماثيل، ويحفظون له ذكرا حميدا يتناقله الأبناء عن الآباء، حتى ينقرضوا وينقرض العالم.
إذا جحدت الأمة حق العالم لها، أو قصرت في استحسان عمله، ضعفت الهمم، وقل السعي في المصالح العامة، وانقبضت الأيدي عن تعاطيها، فهبطت شئون الأمة، فافترقت وماتت.
إن الله - جل شأنه - قرن كل حادث بسبب، فإذا استوى لدى الأمة الحسن والقبيح، والطيب والخبيث، والفضيلة والرذيلة، والمصلحة والمفسدة، وفقد منها التمييز، ولم تقدر أعمال العاملين حق قدرها، ولم تعرف معروفا، ولم تنكر منكرا، سلبت آحادها الميل إلى المعالي والكمالات، وكان هذا أشد نكاية بها من جور الظالمين، وتغلب الغالبين.
وظلم الظالم لا يدوم، وسطوة الغالب لا تثبت، إذا كان جمهور الأمة يقابل الإحسان بالاعتراف، والفضل بالحمد، فإنه يوجد منها من يشتري هذه المكافأة بتخليصها وإنقاذها، وأما فقد هذا الإحساس الشريف، فهو أشبه علة بالهرم، لا عقبى له إلا الموت والهلاك.
كيف لا تكون المحمدة الحقة نعمة على النفوس الإنسانية، يسعى لها الأعلون من بني الإنسان، وقد امتن الله بها على نبيه فيما يقول له:
ورفعنا لك ذكرك ، وكيف لا تكون حقا تطالب به الطبيعة، وقد سمح الله لمستحقيها بالتحدث بنعم الأعمال الصالحات، كما سوغ ذلك لنبيه في قوله:
Halaman tidak diketahui