شملهم الخوف وعمهم الجبن والخور، يفزعون من الهمس، ويألمون من اللمس، قعدوا عن الحركة إلى ما يلحقون به الأمم في العزة والشوكة، وخالفوا في ذلك أوامر دينهم، مع رؤيتهم لجيرانهم - بل الذين تحت سلطتهم - يتقدمون عليهم ويباهونهم بما يكسبون، وإذا أصاب قوما من إخوانهم مصيبة أو عدت عليهم عادية لا يسعون في تخفيف مصابهم، ولا ينبعثون لمناصرتهم، ولا توجد فيهم جمعيات ملية كبيرة لا جهرية ولا سرية، يكون من مقاصدها إحياة الغيرة، وتنبيه الحمية، ومساعدة الضعفاء، وحفظ الحق من بغي الأقوياء وتسلط الغرباء.
هكذا نسبوا إلى المسلمين هذه الصفات وتلك الأطوار، وزعموا أن لا منشأ لها إلا اعتقادهم بالقضاء والقدر وتحويل جميع مهماتهم على القدرة الإلهية، وحكموا بأن المسلمين لو داموا على هذه العقيدة فلن تقوم لهم قائمة، ولن ينالوا عزا ولن يعيدوا مجدا، ولا يأخذون بحق، ولا يدفعون تعديا، ولا ينهضون بتقوية سلطان، أو تأييد ملك، ولا يزال بهم الضعف يفعل في نفوسهم، ويركس من طباعهم، حتى يؤدي بهم إلى الفناء والزوال - والعياذ بالله - يفني بعضهم بعضا بالمنازعات الخاصة، وما يسلم من أيدي بعضهم يحصده الأجانب.
واعتقد أولئك الإفرنج أنه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد بمذهب الجبرية، القائلين: بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله، وتوهموا أن المسلمين - بعقيدة القضاء - يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء، تقلبها الرياح كيفما تميل، ومتى رسخ في نفوس قوم أنه لا خيار لهم في قول ولا عمل، ولا حركة ولا سكون، وإنما جميع ذلك بقوة جابرة، وقدرة قاسرة؛ فلا ريب تتعطل قواهم، ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى، وتمحى من خواطرهم داعية السعي والكسب، وأجدر بهم - بعد ذلك - أن يتحولوا من عالم الوجود إلى عالم العدم.
هكذا ظنت طائفة من الإفرنج، وذهب مذهبها كثيرون من ضعفاء العقول في المشرق، ولست أخشى أن أقول : كذب الظان، وأخطأه الوهم، وبطل الزاعم، وافتروا على الله والمسلمين كذبا؛ لا يوجد مسلم في هذا الوقت من سني وشيعي، وزيدي وإسماعيلي، ووهابي وخارجي؛ يرى مذهب الجبر المحض، ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه بالمرة، بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزاء اختياريا في أعمالهم، ويسمى بالكسب، وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم، وأنهم محاسبون بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري، ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية، والنواهي الربانية، الداعية إلى كل خير، الهادية إلى كل فلاح، وأن هذا النوع من الاختيار هو مورد التكليف الشرعي، وبه تتم الحكمة والعدل.
نعم، كان بين المسلمين طائفة تسمى بالجبرية ذهبت إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارا لا يشوبه اختيار، وزعمت أن لا فرق بين أن يحرك الشخص فكه للأكل والمضغ وبين أن يتحرك بقفقفة البرد عند شدته، ومذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع السفسطة الفاسدة، وقد انقرض أرباب هذا المذهب في أواخر القرن الرابع من الهجرة ولم يبق لهم أثر، وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر هو عين الاعتقاد بالجبر، ولا من مقتضيات ذلك الاعتقاد ما ظنه أولئك الواهمون.
الاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع، بل ترشد إليه الفطرة، وسهل على من له فكر أن يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقاربه في الزمان، وأنه لا يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضر لديه، ولا يعلم ماضيها إلا مبدع نظامها، وأن لكل منها مدخلا زاهرا فيما بعده بتقدير العزيز العليم، وإرادة الإنسان إنما هي حلقة من حلقات تلك السلسلة، وليست الإرادة إلا أثرا من آثار الإدراك، والإدراك انفعال النفس بما يعرض على الحواس وشعورها بما أودع في الفطرة من الحاجات، فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره أبله، فضلا عن عاقل، وإن مبدأ هذا الأسباب التي ترى في الظواهر مؤثرة إنما هو بيد مدبر الكون الأعظم الذي أبدع الأشياء على وفق حكمته، وجعل كل حادث تابعا لشبهه كأنه جزاء له، خصوصا في العالم الإنساني.
ولو فرضنا أن جاهلا ضل عن الاعتراف بوجود إله صانع للعالم، فليس في إمكانه أن يتملص من الاعتراف بتأثير الفواعل الطبيعية والحوادث الدهرية في الإرادات البشرية، فهل يستطيع إنسان أن يخرج عن هذه السنة التي سنها الله في خلقه؟ هذا أمر يعترف به طلاب الحقائق فضلا عن الواصلين. وإن بعضا من حكماء الإفرنج وعلماء سياستهم التجئوا إلى الخضوع لسلطة القضاء، وأطالوا البيان في إثباتها، ولسنا في حاجة إلى الاستشهاد بآرائهم.
إن للتاريخ علما فوق الرواية عني بالبحث فيه العلماء من كل أمة، وهو العلم الباحث عن سير الأمم في صعودها وهبوطها، وطبائع الحوادث العظيمة وخواصها، وما ينشأ عنها من التغيير والتبديل في العادات والأخلاق والأفكار، بل في خصائص الإحساس الباطن والوجدان، وما يتبع ذلك كله من نشأة الأمم، وتكون الدول، أو فناء بعضها واندراس أثره.
هذا الفن الذي عدوه من أجل الفنون الأدبية وأجزلها فائدة بناء البحث فيه على الاعتقاد بالقضاء والقدر، والإذعان بأن قوى البشر في قبضة مدبر للكائنات ومصرف للحادثات، ولو استقلت قدرة البشر بالتأثير ما انحط رفيع، ولا ضغف قوي، ولا انهدم مجد، ولا تقوض سلطان.
الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفة الجراءة والإقدام، وخلق الشجاعة والبسالة، ويبعث على اقتحام المهالك التي توجف بها قلوب الأسود، وتنشق منها مرائر النمور، هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات، واحتمال المكاره، ومقارعة الأهوال، ويحليها بحلى الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج من كل ما يعز عليها، بل يحملها على بذل الأرواح، والتخلي عن نضرة الحياة؛ كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة.
Halaman tidak diketahui