فإن عهدوا بشخص نوعا من المخالفة لمشربهم عدوه متعصبا، وهمزوا به وغمزوا ولمزوا، وإذا رأوه عبسوا وبسروا، وشمخوا بأنوفهم كبرا وولوه دبرا، ونادوا عليه بالويل والثبور. ماذا سبق إلى أفهامهم من هذا اللفظ، وماذا اتصل بعقولهم من معناه حتى خالوه مبدأ لكل شناعة، ومصدرا لكل نقيصة، وهل لهم وقوف على شيء من حقيقته؟
التعصب قيام بالعصبية، والعصبية من المصادر النسبية، نسبة إلى العصبة، وهي قوم الرجل الذين يعززون قوته، ويدفعون عنه الضيم والعداء، فالتعصب وصف للنفس الإنسانية، تصدر عنه نهضة لحماية من يتصل بها والذود عن حقه، ووجوه الاتصال تابعة لأحكام النفس في معلوماتها ومعارفها.
هذا الوصف هو الذي شكل الله به الشعوب، وأقام بناء الأمم، وهو عقد الربط في كل أمة، بل هو المزاج الصحيح يوحد المتفرق منها تحت اسم واحد، أو ينشئها بتقدير الله خلقا واحدا، كبدن تألف من أجزاء وعناصر، تدبره روح واحدة، فتكون كشخص يمتاز في أطواره وشئونه وسعادته وشقائه عن سائر الأشخاص.
وهذه الوحدة هي مبعث المباراة بين أمة وأمة، وقبيل وقبيل، ومباهاة كل من الأمتين المتقابلتين بما يتوفر لها من أسباب الرفاهة وهناء العيش، وما تجمعه قواها من وسائل العزة والمنعة، وسمو المقام ونفاذ الكلمة، والتنافس بين الأمم كالتنافس بين الأشخاص، أعظم باعث على بلوغ أقصى درجات الكمال في جميع لوازم الحياة بقدر ما تسعه الطاقة.
التعصب روح كلي مهبطه هيئة الأمة وصورتها، وسائر أرواح الأفراد حواسه ومشاعره، فإذا ألم بأحد المشاعر ما لا يلائمه من أجنبي عنه انفعل الروح الكلي، وجاشت طبيعته لدفعه، فهو لهذا مثار الحمية العامة، ومسعر النعرة الجنسية، هذا هو الذي يرفع نفوس آحاد الأمة عن معاطاة الدنايا وارتكاب الخيانات فيما يعود على الأمة بضرر، أو يئول إلى سوء عاقبة، وإن استقامة الطباع ورسوخ الفضيلة في أمة تكون على حسب درجة التعصب فيها والالتحام بين آحادها، يكون كل منهم بمنزلة عضو سليم من بدن حي، لا يجد الرأس بارتفاعه غنى عن القدم، ولا يرى القدمان في تطرفهما انحطاطا في رتبة الوجود، وإنما كل يؤدي وظائفه لحفظ البدن وبقائه.
وكلما ضعفت قوة الربط بين أفراد الأمة بضعف التعصب فيهم؛ استرخت الأعصاب، ورثت الأطناب، ورقت الأوتار، وتداعى بناء الأمة إلى الانحلال كما يتداعى بناء البنية البدنية إلى الفناء، بعد هذا يموت الروح الكلي، وتبطل هيئة الأمة وإن بقيت آحادها، فما هي إلا كالأجزاء المتناثرة، إما أن تتصل بأبدان أخرى - بحكم ضرورة الكون - وإما أن تبقى في قبضة الموت إلى أن ينفخ فيها روح النشأة الأخرى.
سنة الله في خلقه، إذا ضعفت العصبية في قوم رماهم الله بالفشل، وغفل بعضهم عن بعض، وأعقب الغفلة تقطع في الروابط، وتبعه تقاطع وتدابر، فيتسع للأجانب والعناصر الغريبة مجال التداخل فيهم، ولن تقوم لهم قائمة من بعد حتى يعيدهم الله كما بدأهم بإفاضة روح التعصب في نشأة ثانية.
نعم، إن التعصب وصف كسائر الأوصاف، له حد اعتدال وطرفا إفراط وتفريط، واعتداله هو الكمال الذي بينا مزاياه، والتفريط فيه هو النقص الذي أشرنا لرزاياه، والإفراط فيه مذمة تبعث على الجور والاعتداء؛ فالمفرط في تعصبه يدافع عن الملتحم به بحق وبغير حق، ويرى عصبته منفردة باستحقاق الكرامة، وينظر إلى الأجنبي عنه كما ينظر إلى الهمل، لا يعترف به بحق، ولا يرعى له ذمة، فيخرج بذلك عن جادة العدل، فتنقلب منفعة التعصب إلى مضرة ويذهب بهاء الأمة، بل يتقوض مجدها، فإن العدل قوام الاجتماع الإنساني، وبه حياة الأمم، وكل قوة لا تخضع للعدل فمصيرها إلى الزوال، وهذا الحد من الإفراط في التعصب هو الممقوت على لسان الشارع
صلى الله عليه وسلم
في قوله: «ليس منا من دعا إلى عصبية.»
Halaman tidak diketahui