وما دام القرآن يتلى بين المسلمين وهو كتابهم المنزل وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم، ومغالبة المعتدين، وطلب المنعة من كل سبيل، لا يعين لها وجها، ولا يخصص لها طريقا ... فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما سلب منهم، فيتقدمون على من سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة والمصاولة حفظا لحقوقهم، وضنا بأنفسهم عن الذل وملتهم عن الضياع، وإلى الله تصير الأمور.
الفصل الرابع
انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . •••
إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتا على يقينهم، يباهون بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض، ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم
صلى الله عليه وسلم
كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة - كما هي في علمائهم - متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من بقاع الأرض عالما كان أو جاهلا أن واحدا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر ومن أي جنس صبأ عن دينه؛ رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به، بل على جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ وقرأها قارئهم بعد مائين من السنين؛ لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من الغليان، ويستفزه الغضب ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدث عن غريب أو يحكي عن عجيب.
المسلمون - بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة - مطالبون عند الله بالمحافظة على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على كل واحد منهم، إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام، ومن فروضهم في سبيل الحماية وحفظ الولاية، بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل خطب، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية خاصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره؛ لوجبت عليه الهجرة من دار حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل زمان.
المسلمون يحث كل واحد منه بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه به الشريعة، وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه، ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض الآخر، ولا يألمون لما يألم له بعضهم، فأهل «بلوجستان» كانوا يرون حركات الإنجليز في «أفغانستان» على مواقع أنظارهم ولا يجيش لهم جأش، ولم تكن لهم نعرة على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون تداخل الإنجليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا يتململون، وإن جنود الإنجليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابا وإيابا وتقتل وتفتك، ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري دمائهم، بل السامعين لخريرها من حلاقيمهم، الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم وتحت أرجلهم وعن شمائلهم.
تمسك المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم، مع هذه الحالة التي هم عليها؛ مما يقضي بالعجب ويدعو إلى الحيرة، ويسبق إلى بيان السبب، فخذ مجملا عنه: إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات النفسية، وإن كانت هي الباعثة على الأعمال وعن حكمها، تصدر بتقدير العزيز العليم؛ لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس عليها حتى يصير ما يعبر عنه بالملكة والخلق، وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.
Halaman tidak diketahui