استقر قرار الرجل في وادي النيل بعد أسفار بعيدة، ومشاغل عديدة، في حياة الميادين والكفاح.
ولم تكن كل هذه الشواغل لتعوق جمال الدين عن متابعة الدراسة العلمية العالية التي كان له إليها نزوع شديد، ولقد كان ينتقل في البلاد مصحوبا بكتبه، وكان قارئا نهما لا يشبع، عرف في شبابه كل المؤلفات القديمة في الفارسية والعربية، ولم يكن يجهل أي كتاب من الكتب الحديثة ترجم إلى لغة شرقية.
لم يكن جمال الدين ذا لهو ولا شهوانيا، وكان قليل الطعام يتبلغ منه بوجبة النهار، ويكتفي بمنقوع الشاي يشربه مرارا، وكان مغرما بتدخين السيجار، ولم يكن لخلابة النساء وسحرهن سلطان على قلبه الحديدي.
شهد في مصر أواخر عهد إسماعيل وأوائل عهد توفيق، إذ كانت تتمخض البلاد عن أزمات اقتصادية واجتماعية وفكرية وسياسية؛ بسبب إسراف إسماعيل وضعف توفيق، وبما بدا من التصادم بين القديم والحديث، وبسبب الدسائس السياسية وتدخل الأجانب.
كل ذلك هيأ الوسائل لمواهب رجل أوتي حظا عظيما من سمو النفس، ومتانة الخلق، وتوقد الذكاء ، وقوة الذاكرة، ودقة الملاحظة، إلى علم غزير، ونشاط لا يكل ، وشجاعة لا تعرف الخوف، وبلاغة في الكتابة والخطاب خارقة للعادة، مع نفوذ ساحر وسمت مهيب جليل، جذبت إلى السيد مزاياه الباهرة قلوب كثير من الأمراء وأرباب المقامات العالية وأهل العلم والأدب، فكانوا يوافونه في القهوات والمنتزهات العامة حيث كان سامره مجلس علم وحكمة وأدب وسياسة.
والتف حوله أذكياء الطلاب، ومن بينهم عدد من خيرة مجاوري الأزهر، فكان يلقي عليهم دروسا في الأدب والمنطق والتوحيد والفلسفة وعلم التصوف وأصول الفقه والفلك، في مسامرات خالية التكاليف والقيود.
وكانت مدرسته بيته، ولم يذهب إلى الأزهر قط مدرسا، وإنما كان يذهب إليه زائرا، وأكثر ما كان يزوره في يوم الجمعة.
وكان يحمل تلاميذه على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والاجتماعية والسياسية، فاشتغلوا على نظره، وبرعوا بين يديه، وكانوا طليعة النهضة الأدبية في مصر، وكانوا مؤسسي بنيانها.
وانتظم السيد في الماسونية وتقدم في درجاتها، ثم أنشأ محفلا وطنيا جمع فيه نبهاء طلابه ومريديه حتى صار عدد أعضائه نحو 300، وكان هو رئيسه يمرن فيه تلاميذه على الخطابة ويلهمهم مبادئه ويعدهم للعمل، ويوقظ فيهم عواطف الوطنية ويعلمهم الشغف بحياة الحرية وبالنظم الدستورية.
وقد هيأ من تلاميذه طبقة ذات حرية وجرأة في السياسة والأدب والإصلاح، وأخذ يتوسل بالحركات السياسية، وكان الرجل سياسيا، يعتبره أشياعه وطنيا عظيما، ويعتبره خصومه مهيجا خطرا!
Halaman tidak diketahui