هؤلاء رجال الإنجليز، وهذه أفكارهم
تأخر صدور الجريدة أياما؛ لضرورة ما مسنا من ضعف في المزاج مع مصادفة رداءة الهواء في البلاد الفرنسية هذه الأيام، والحمد لله على زوال المانع، إلا أننا مع ذلك لم نقصر في أداء الواجب من العمل الذي قمنا به في المدافعة عن حقوق المسلمين، فقد خلقنا - والشكر لله - لهذا العمل وطبعنا عليه، ونرجو ديان السماوات والأرض أن نموت في هذه السبيل، وأن نبعث في زمرة السالكين فيها.
رأينا أن يذهب الشيخ محمد عبده (المحرر الأول لهذه الجريدة) إلى لندن إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا، ومن يؤمل فيهم صدق النية في رعاية مصالح المسلمين من رجال السياسة الإنجليزية، وليستكشف مناصب الفخاخ السياسية التي ما مرت قدم شرقي إلا سقطت منها فيما يعسر الخلاص منه، وليسبر أغوار المطامع الإنجليزية التي لا يدرك منتهاها.
تلك المطامع التي بعدما التهمت ثلث المسكونة وطوقت كرة الأرض بالفتح والاستملاك لم تزل في مد لا جزر معه، ولا يزال رجال حكومة بريطانيا في نهم شديد لابتلاع ممالك العالم، وكلما أساغوا قطرا طلبوا إليه آخر، وليستطلع خفايا المقاصد من أثناء الأفكار وغضون الأقوال، وليقف على الطرق المألوفة بين أولئك السياسيين في التلوين، ويتبين كيف يتمكنون من إبراز محاسن الأعمال في صفات رديئة يستنكرها كل ناظر إليها، وإظهار السيئات في ألوان بهجة تسر الناظرين، حتى يمكن بعد ذلك وضع ميزان قسط يتميز به الزيف من النضار الخالص؛ كي لا يغتر الجاهل، ولا يزل العالم.
لاقى (محرر الجريدة) كثيرا من رجال السياسة الإنجليزية وأنفذ الناس رأيا فيها، وقد جرت بينه وبينهم محادثات طويلة في الأحوال المصرية، ومن محادثاته التمهيدية ما نشر في بعض الجرائد الإنجليزية كجريدة «البال مال جازيت»، وجريدة «التروت» التي يحررها النائب الشهير مستر لابوشير، وجريدة «التايمس»، وسيذكر شيء مما جرى بينه وبين بعض الأكابر من رجال الحكومة مما يستفيد منه الشرقيون عموما، والمصريون خصوصا، وستأتي جريدتنا على بعض ما استنبطه من فحوى أقوالهم وأدركه من مرامي أفكارهم، أما الآن فنأتي على جملة واحدة من محادثة طويلة كانت بينه وبين اللورد «هرتنكتون» وزير الحربية الإنجليزية؛ ليأخذ كل مصري منها حظه، ويصيب كل شرقي سهمه، ويقف جميعهم على مواقع الشرقيين من أنظار الحكومة الإنجليزية.
سأل اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنجليزية: «ألا يرضي المصريين أن يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الحكومة الإنجليزية؟ وألا يرون حكومتنا خيرا لهم من حكومة الأتراك، وفلان باشا وفلان باشا؟» فأجاب الشيخ (محرر جريتنا): «كلا، إن المصريين قوم عرب، وكلهم مسلمون إلا قليلا، وفيهم من محبي أوطانهم مثل ما في الشعب الإنجليزي، فلا يخطر ببال أحد منهم الميل إلى الخضوع لسلطة من يخالفه في الدين والجنس، ولا يصح لحضرة اللورد وهو على علم بطبائع الأمم أن يتصور هذا الميل في المصريين.»
فقال الوزير: «هل تنكر أن الجهالة عامة في أقطار مصر، وأن الكافة لا تفرق بين الحاكم الأجنبي والحاكم الوطني، وأن ما ذكرته من النفرة من سلطة الأجانب إنما يكون في الأمم المهذبة؟» فاحتد الشيخ حدة تليق بمسلم لا يتهاون في أداء ما فرضه الدين، وأوجبته حقوق الشريعة، وقال: «أولا إن النفرة من ولاية الأجنبي ونبذ الطبع لسلطته مما أودع في فطرة البشر، وليس بمحتاج للدرس والمطالعة، وهو شعور إنساني ظهرت قوته في أشد الأمم توحشا كقبائل الزولو الذين لم تنسوا ما كابدتموه منهم في الدفاع عن أوطانهم.
وثانيا إن المسلمين مهما كانوا وعلى أية درجة وجدوا لا يصلون من الجهل إلى الدرجة التي يتصورها الوزير؛ فإن الأميين منهم ومن لا يقرءون ولا يكتبون، لا يفوتهم العلم بضروريات الدين، ومن أجلاها ومن أظهرها عندهم أن لا يدينوا لمخالفيهم فيه، وإن لهم في الخطب الجمعية ومواعظ الوعاظ في مساجدهم ما يقوم مقام العلوم الابتدائية، وإن جميع ما يتلقونه من النصائح الدينية يحذرهم من الخضوع لمن لا يوافقهم ويحدث فيهم من الإحساسات الشريفة الإنسانية ما لا ينحطون معه عن سائر الأمم، خصوصا المصريين الذين ينطقون باللسان العربي ويفهمون دقائق ما أودع في ذلك اللسان وهو لسان دينهم.
وثالثا إن أرض مصر من زمن محمد علي قد انتشرت فيها العلوم والآداب الجديدة على نحو ما هو موجود في بلاد أوروبا، وأخذ كل مصري نصيبا منها على قدره، ولا تخلو قرية من القرى الصغيرة من أن يكون فيها قارئون وكاتبون، والأخبار العمومية توصلها إليهم الجرائد العربية، ومن لم يقرأ يستنبئ الأخبار من القارئين، فبهذا أضافوا إلى الشعور الطبيعي والتقليد الديني محبة وطنية منشؤها التهذيب العمومي قوي بها الميلان الأولان، ولا أظنهم يخالفون في ذلك سائر الأمم.» ا.ه.
أين العلماء الأذكياء؟ أين الجهلة الأغبياء؟ أين الأباة الأعلياء؟ أين السفلة الأدنياء؟ ليرى كل واحد منهم منزلة الشرقيين عند رجال الحكومة الإنجليزية، كل ذي شكل إنساني وصورة بشرية يدرك ما وراء هذه الأسئلة، وما تشف عنه هذه الظنون العجيبة، هذا اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنجليزية يظن أن الجهل بلغ من المسلمين عموما، والمصريين خصوصا، إلى حد سلب عنهم كل إحساس إنساني، وأنهم في حضيض من الجهل، لا يميزون فيه بين الغريب والقريب، ولا بين العدو والحبيب.
Halaman tidak diketahui