طنطنت الجرائد الإنجليزية ورجال السياسة في بريطانيا بنجاح الجنرال جوردون في مأموريته بعدما وصل الخرطوم بأيام، ثم انعكس الأمر عليها وأظهرت الجزع مما حل به من الخيبة في أعماله، والإشفاق والارتجاف مما يتوقع نزوله من الخطر، وأجمعت على أن ما يصيب جوردون من قتل أو أسر يكون وصمة في شرف إنجلترا إلى الأبد وعارا عليها لا يمحى، ولا مداركة لهذا الخطب العظيم إلا بإرسال العساكر الإنجليزية إلى الخرطوم.
إلا أنه في هذه الأيام بعد العجز عن إرسال العساكر لم يعد لوزراء إنجلترا أو رجال حكومتها عذر للتملص من هذا العار الذي يلحق بهم، فقال المسيو جلادستون وزير الحربية الإنجليزية إن الجنرال جوردون لم يؤمر بالإقامة في الخرطوم إلى أجل غير محدود حتى يحتاج نجدة عسكرية تخلصه مما عساه يقع فيه، بل كان فيما أمر به أن يخرج من المدينة عندما يرى لزوما لذلك، على أن الجنرال لم يطلب إعانة عسكرية، فالوزارة الإنجليزية لا تتحمل تبعة ما نزل بجوردون إلا بعد أن تقف على أفكاره ومطامح أنظاره، ولا وقوف لها إلى الآن على شيء منها، والأوامر التي أصدرتها إليه في الأيام الأخيرة لم يرد لها خبر عن وصولها.
ومن كلام وزير الحربية أن الحكومة الإنجليزية تدبرت من أيام في إرسال فرقة عسكرية إلى بربر، وبعد إمعان النظر في لزوم ذلك رأت عدم الإرسال أولى، وأنهى كلامه بقوله: إن حكومته لم تأخذ على نفسها إعادة السلطة المصرية في السودان، ولا تقرير أي حكومة فيها، وإنها تلقي اليوم على نفسها كل تبعة توجه إليها في شئون السودان، وأما سواكن فسيقام بها حامية قليلة العدد إلى أن يبرم اتفاق (بينهم وبين مصر).
وكلام هؤلاء الوزراء قد لا يخلو من غرابة؛ فإن منشورات جوردون التي نشرها بعد دخوله الخرطوم على قبائل العربان ورسالته إلى المهدي لم تنكرها الحكومة الإنجليزية، بل دافعت عنها ودفعت الاعتراضات التي وجهت إليها، وكان فيها أنه وال على السودان (بل سلطان) من قبل دولته والحكومة المصرية، وأنه بما له من حق الولاية يمنح محمد أحمد لقب أمير كوردفان، ويبيح بيع الرقيق، ويدعو العرب إلى الطاعة، فتلك المنشورات صريحة في أن بعثته كانت لإقرار حكومة في السودان، والمدافعة عن بعض الولايات فيه، وأنه فيما يعمل مؤتمر لحكومته، وإلا كان كاذبا والحكومة دافعت عن كذبه رجاء أن ينجح فيه، فلما أخفق لم تجد بدا من البراءة منه.
وقالت جريدة التان الفرنسية: إن وزير الحربية الإنجليزية يدعي في مجلس العموم أن الجنرال جوردون لم يطلب نجدة عسكرية إلى الخرطوم، مع أن الأخبار التي وردت إلى جريدة التايمس من مصدر يكاد يكون رسميا ونشرناها من قبل؛ تكذب ما قاله الوزير، وتؤكد أن والي الخرطوم (الجنرال) كانت منتظرا ورود العساكر الإنجليزية إليه وقتا بعد وقت، وتحققت حاجته لذلك عند الكافة من أهالي لندن، حتى كان تدبر الحكومة في إرسال فرقة إلى بربر مبنيا على هذا؛ لتفتح طريق مصر العليا، لكن أقعدها تصور ما تكابده الجنود من المشاق والمتاعب، بل ما يحل بها من التلف.
وقد عرضت جريدة «البال مال جازيت» بالطعن على حكومة إنجلترا، ولوحت بلومها على ما أظهرته من العجز والمراوغة، حيث قالت: فليعلم الجنرال جوردون أن الحكومة الإنجليزية بعد إضرابها عن إرسال العساكر إلى بربر يستحيل عليها أن ترسل عساكر إلى الخرطوم، وقالت: إن المسيو بوير قنصل الإنجليز في الخرطوم كان ينتظر المدد العسكري يوما بعد يوم وفي ظنه أن حكومته تسعفه بذلك، لكنه يجب عليه الآن أن يعلم أنها تركته وأصحابه ووكلتهم إلى أنفسهم.
فعليه أن يتدبر في أمره بنفسه، موقنا أن الحكومة الإنجليزية تفضل إخلاء السودان وتعريض حامية المدن ومن فيها من رجالها لمدى أشايع محمد أحمد تفتك بهم على إعداد أي وسيلة لإنقاذهم، وأتبعت قولها هذا بتهكم على الوزراء فقالت: من زعم أن إرسال جوردون إلى السودان لم يأت بفائدة فقد أخطأ خطأ عظيما؛ فإن أعظم فائدة ترتبت عليه بقاء الوزارة الإنجليزية وصيانتها من السقوط، فإن حياتها كانت موقوفة على سفره من لندن، ولولاه ما خلصت من الخطر الذي كان محدقا بها، ولما بقيت في قيد الحياة إلى الآن، وأنعم بها من فائدة جليلة لمصر وإنجلترا، فكفى الأمتين سعادة أن تهدر شقاشق الوزارة فوق المنابر.
هكذا تعتع المستر جلادستون وزملاؤه في الكلام على المسألة السودانية، وسلكوا طريق المواربة وتبرءوا من تبعتها بعدما ساقوا إليها الجيوش والقواد؛ بقصد إخماد الثورة وتقرير الراحة، وهو قرار سياسي تبع الانهزام العسكري، يكشف لنا عن قوة محمد أحمد ومنعته ويأس الدولة البريطانية عن ملافاة أمره، وأن نيتها الاقتصار على التحصن فيما دون حدود مصر الطبيعية، بل على الحلول في مصر السفلى حتى تحفظ القنال، وتتصرف في أراضيها الخصبة، وتقف على أبواب التجارة، ترقب حركات المارة، وتشيع الذاهبين والآيبين ما بين الشرق والغرب، وتقنع بالتحكم في بعض الضعفاء من المصريين.
وإنا لا نعلم ماذا تكون العاقبة إذا أصبح السودان بأسره في حوزة محمد أحمد، واعتصم في قاعدة تلك الأقطار الشاسعة، ولا عاصم له إلا بالإيغال في سيره وبث دعوته بين جميع القبائل العربية، بما يستطيع من الحيل أو القوة، أفلا ينتهي بعد هذا إلى سوق جيوشه الكثيفة إلى حدود مصر العليا؟! ربما، بل يغلب على الظن أنه يفعل ذلك، فإن لم يفعل فهي شعلة الثورة تسري بطبعها وتضطره إلى اقتفاء أثرها.
جاءت الأخبار من أيام قطع الثائرين لخطوط التلغراف بين أسوان وكورسكو، وأين كورسكو من أسوان؟! هي على مقربة منها والمسافة بينهما كما بين قنا وأسوان، وفي أخبار أخرى أن للهيجان والتحرش للخروج أثرا ظاهرا في أطراف مصر العليا، فإذا قدر الله وصارت حدود مصر العليا معارا للحركات الحربية، وهو مما لا تعده الحوادث، فهل يبقى المصريون وقبائل العربان في الفيوم والبحيرة والشرقية وجميع أنحاء القطر المصري على سكونهم بعدما رأوا من ضعف الإنجليز وعجزهم ما رأوا، وبعدما يشهدون سيلا قويا ماؤه من مائهم ينصب إليهم ، وبعدما حرجت صدروهم وضاقوا ذرعا من تصرف الإنجليز في حكومتهم؟
Halaman tidak diketahui