يثبت هذا الذي قلناه ما ورد إلى «الديلي نيوز» من أن الجنرال جوردون بعث برقية أثبت فيها أنه عاجز عن مساعدة الحامية المصرية في السودان ما لم يكن تحت إمرته جيوش على النيل الأبيض والنيل الأزرق، وما جاء من مكالمته لمراسل التايمس حيث صرح له أنه لم يعد في إمكانه أن يفعل أزيد مما فعل (وما فعل شيئا) لتقرير الراحة بين السكان، وأن العزم على إخلاء السودان فتح للشيخ محمد أحمد سبيلا لإثارة القبائل بين بربر والخرطوم، وفي أثناء المحادثة أظهر احتياجه لفرقتين من العساكر ترسل إليه من جيش الجنرال جراهام، ومما قاله: إنه من الضروري تعيين زبير باشا خلفا له في الخرطوم ويفوض إليه إعادة الراحة ومقاومة الثائرين، وهذا من عجيب تدبيره؛ فإن هذا الباشا إن لم يكن معتقدا بصاحب دعوة المهدوية، فعنده أعظم باعث للاتفاق معه، فإنه لم ينس ما حل بأولاده وأقاربه من القتل صبرا، وما سلب من أمواله نهبا وغصبا، فكيف يميل لمساعدة الحكومة المصرية على إخضاع الثائرين عليها؟!
الفصل السادس
جراهام وعثمان دجمة
بعث الجنرال جراهام قائد جيش الإنجليز في جهة سواكن، بمنشورات إلى رؤساء القبائل يعدهم ويمنيهم ويهددهم ويتوعدهم لينفصلوا عن عثمان دجمة، وإلى عثمان يرعد له ويبرق، ويرغي ويزبد، ويطلب منه التسليم، فورد الجواب من عثمان برفض الطلب والاستعداد للحرب، وردت الرسائل من واحد وعشرين شيخا من مشايخ القبائل ناطقة بأنه لا واسطة بين الإنجليز ومساعديهم، وبين القبائل السودانية إلا السيف، ثم قالوا: إن كل من لا يصدق بدعوى المهدي فإنه سيكون لا محالة فريسة للموت وطعمة للهلاك.
فاضطر الجنرال جراهام لإعادة التهديد مرة أخرى على النحو الأول، ويغلب على الظن أن الجواب يكون الجواب.
وجاء في جرائد الإنجليز أن الشيخ المرغني (وهو شيخ طريقة من المسلمين) بعث إلى عثمان دجمة رقيما يستدعيه للطاعة، ويحذره من مقاومة العساكر الإنجليزية، فأجابه عثمان دجمة بأن في عزمه شرب دماء الإنجليز وكل من يساعدهم فإنه يحارب بسيف الإسلام، وفي ختام جوابه نصح للمرغني، وطلب منه أن يقوم بإرشاد الإنجليز إلى ترك الحرب ووضع السلاح، وهو أولى له من نصح مشايخ القبائل العربية والإسلامية.
الفصل السابع
المسألة المصرية
إن المسألة المصرية صبغت في إنجلترا عدة صبغات من يوم نشأتها، وكلما عرضت على العقول في لون خيل لها أنه أجود ما في الدن، حتى إذا مضى عليه زمان خفي وأعقبه لون جديد، وهي في انتقالاتها هذه لا تزداد إلا أشكالا، ولا تزيد إنجلترا في إنهائها إلا ارتباكا.
كان بود مستر جلادستون أن ينهج في سياسته منهج سلفائه من الإنجليز، يحبو إلى مقصده بالأناة والتؤدة، ويلتوي في مسيره إلى معاطف متخالفة، ويرى أن سلوك الجادة مما لا تقتضيه الحكمة، ولا يسوغه الحذق، حتى يبلغ الغاية ويقطع الخلال (الطريق بين الرمال) ولا يظهر له أثر يقتفى، أو كان كما يزعمون أو كما يدعى، ونادى به على عهد بيكونسفيلد من أنه لا يميل إلى الفتوحات، وهمه البعد بإنجلترا عن المدخلات في الأمور الأجنبية بالقوة الحربية، إلا أن الحوادث المصرية ألجأته إلى العدول عن مشربه، والتطور بغير طوره، فتضاربت آراؤه وتردد في أعماله، وسار سيرة المتخبط، ونشأ من طلعه في السياسة توعر السبل على حكومته في بلوغ ما تريد، وحدث عنه النزاع بينه وبين بقية الوزراء فيما يجب اتباعه من بعد، وهو الآن في حيرة بين التمسك بمذهبه السياسي، والاستقالة من المنصب، وبين الانفلات منه والتعرض للوم العقلاء والسقوط من منزلته في قلوب أحزابه، وهذه الحيرة مهدت لمعارضيه من الحزب المحافظ طريقا للسعي في إسقاطه من مكانته السياسية وإهباطه من كرسي الوزارة.
Halaman tidak diketahui