Tajuk Kejayaan dalam Kisah Yusuf yang Setia
عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق
Genre-genre
والهمام الذي استأصل شأفة الطغاة بسيف عزمه المنتضى، أصبحت المدارس بعنايته كأنها روض وريف وريق، أو حلبة آداب يستبق فيها كماتها فريقا يتلوه فريق، فلله دره ابتسم عهده فاستبكى كل عهد ذهب، وارتسم اسمه في تاريخ ملوك مصر بماء الذهب، وإن لمصر في التاريخ لشأنا دونه الفرقدان، وفخرا يرويه عنها من أبناء الزمان قاص ودان؛ لأنها البقعة المباركة التي ضربت فيها سرادقات العمار، والكعبة التي كان بها للطائفين هناك اعتمار، ولكم يؤمها الآن حريص من العلماء، على مشاهدة آثار القدماء، فيتهيب أنى جاء تلقاء أبي الحجاج أو الهرمين، تهيب جماعة الحجاج ساعة زيارة الحرمين، ولو هاله أبو الهول وهو يحدق لعين شمس، ويفرق بين حاله اليوم وما كان عليه بالأمس، لارتضى بالدلالة الالتزامية قولا شارحا لعظم هاتيك القرون، الذين كانوا يبيعون المعارف على سواهم من الأمم ولا يشترون، ثم أوسعهم الدهر حسدا، وكر عليهم بصروفه أسدا، فاضطروا الآن يستبدلوا الإقدام بالإحجام، وأن يدينوا وهم صاغرون لملوك الأعجام، الذين طفقوا يقيمون عليهم من حيث لا يحتسبون أدلة، وإذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، ولقد مكن الله في الأرض لذي القرنين، وخضعت له الأمم على بعد المشرقين، فأغلق في وجوه أولئك الفرس باب النصر، وافتتح برأيه المسدد وسيفه المهند ملك مصر، ثم ثبطته المنون عما كان يروم إليه الجنوح، فأصبحت ممالكه تبكي على شبابه الغض وتنوح، وتقسم بعض قادته آخذا من القسمة المقدرة بنصيب، مصيبا زعيم البطالسة عروس الأقطار الشرقية بنصيب، فكانت له في إنشاء مكتبة الإسكندرية يد بيضاء، ولخلفائه من بعده عزيمة ذات مضاء، إلى أن أخنى على دولتهم بمصر الزمان، واعتاض عنها بالتي هي لقياصرة الرومان، فأرسل إليها أولئك من الرعاية طرفا كليلا، ولم يقبلوا على ملاحظة شئونها إلا قليلا، فلو لم تدفع بمقاليد الطاعة لابن العاص، ويستسلم لأحكامه من أهلها منقاد وعاص، لما نزلت منزلة الصدر في صدر الإسلام، ولما اعتزت بصيرورة دار الخلافة مدينة السلام، وما زالت الأيام تحكم عراها وتحلها، وآونة ترحل عنها السعادة وآونة تحلها، حتى انقلب ملوكها مماليك، واستوى سراتها والصعاليك، فأغار عليها في ولاية الغوري آل عثمان، واستسلمت للسلطان سليم عقب فتكه بطومان، لكنها لم تبرح حالها متشاكسة متعاكسة، لتداولها بين أيدي الولاة وبقاء نفوذ الشراكسة؛ فلهذا طمعت الجمهورية الفرنساوية في افتتاح أبوابها المغلقة، وأن تسود عليها - والحالة هذه - سيادة مطلقة، وأصرت على أن تجعلها إقليما فرنسويا، ولم تعد إلى دار الخلافة إلا بعد ثلاث سنين سويا، حين أتيح لها من ناضل عنها بحسامه وقلمه، وبسط عليها منصور لوائه ومنشور علمه، فاقتطف من الآمال ثمرا جنيا، وشرف وهو - محمد علي باشا - لكون أصله مقدونيا، بل نظم المنتثر من أحوالها نظم العقود، ونبه أجيالا بها كنت تحسبهم أيقاظا وهم رقود، وقد اقتدى به - ولله الحمد - خلفاؤه، الذين هم أولياء التمدن وحلفاؤه، فاختصوا بمنشآت يتمدح بها من شدا أو أشاد، وأوتي ولو مثقال ذرة من الرشاد، وحسبك بمن يتنقل في الرئاسة من أصل لفرع، مؤيدة سياسته وهو سمي التوفيق بنصوص أحكام الشرع، حتى اعتز به القطر بعد البؤس والباس.
وافترت ثغور المعارف كأنه الرشيد في بني العباس، مدارسه العامرة تدحض بآياتها البينات حجة الممتري، وتغلو سيمتها على ذات الراصد القاصد المشتري، هي الروضة الناضرة، ذات القطوف الدانية، والغادة الناظرة، إلى مديرها اليعروف سرا وعلانية، ومنها المدارس القبطية التي هي شامة في وجنة المدارس، كما أن من عرف غبطة رئيسها الروحي وشامه، علم أنه المحيي من مآثرها الطلل الدارس، وكأي للجناب العالي من منن كبرى وآلاء، يخفق لها على المدارس القبطية لواء علاء، حتى روى حديثها أولو الفضل أيما رواية، وتجاوزت في ترقية أبناء الوطن حد الكفاية، لا سيما مدرسة حارة السقائين الزاهرة، في محروسة مصر القاهرة، فقد تفرق طلبتها بين ممتط غارب الآداب، أو متعلق من العلوم العقلية بالأهداب، وبين ماد للخدمة الأميرية ليفوز في الوطن بالوطر باعا، أو معمر على حداثة سنه من معاني الأدب أبياتا ورباعا، ولقد قمت بخطة نظارتها وفق الأرب قيام الأمين، وتلقيت بها راية العلوم الأدبية تلقي عرابة العرب باليمين، فانتقيت الدر المختار، من أصداف المنافع، واستسقيت بيد الاختبار، السائغ من مياه تلك المنابع، ولما كانت قصص الأنبياء ريحانة الألباء، والمرآة التي تجلو بصيرة المشتغل بفن الألف والباء، عن لي أن أفرغ قصة الصديق عليه السلام، في قالب من صياغة التمثيل، وأقدم بها على رحاب أمراء الكلام، مع كوني حفيظا على معاني التنزيل، إذ هي قصة مدبجة المعاني، بديباج عجائب المقدور، مؤسسة المباني، على دعائم عظة تنشرح بتلاوتها الصدور، قصة يوسف حسنها عزيز، وثمين كنزها جوهر وإبريز، تعانق فيها التاريخ بالحكم، فعز أن يكون لها نظير في الكيف والكم، اشتملت على تجارة رابحة، ومخاصمة ومصالحة، ورشاد وغواية، ومبدأ وغاية، ومكائد نساء، وإحسان لمن أساء، وخفض ورفع، وضرر ونفع، وتدبير وسياسة، وتوفير في القوت حكمت به الكياسة، وعفة وأمانة، واهتمام بخيانة، وعالم منام، وصادق أحلام، صححها عالم الحقيقة، على أبدع طريقة، وفن حفظ زراعة، لدفع أزمة مجاعة، وبالجملة فهي جوهرة من أنفس الودائع الفاخرة، وسفينة ببضائع البدائع ذاخرة، وأكمل قصة جمعت بين خيري الدنيا والآخرة، ولرب منتقد يطلع عليها فيستوكف مزن الانتقاد، ويقوده الغرض إلى سوء الاعتقاد فينقاد، على أنه لو تصفحها تصفح الذكي الأريب، وألحقها بالمقامات التي لها كبير مدخلية في التهذيب، لأدرك بأن هذا الأسلوب أشد علقة بالأسماع، والصراط الحميد الذي انعقد على تقريظه نطاق الإجماع، وأين أنت ويوم عروبة شهدها فيه أولو الألباب، وتقاطروا علينا في حديقة الأزبكية من كل باب، فنهضنا بتمثيلها نهضة الرجال، وأسعدتنا المقادير ببزوغ شموس طلعة الأنجال، وها أنا أبديها خريدة، على منصة الجمع بين الأصول، وأهديها فريدة، في عقد مقدمة وثماني مقامات وخاتمة وفصول، موسومة «بعنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق»، والله أسأل أن يتولاني بتوفيقه فيما عولت، فهو وحسبي تبارك اسمه وعليه توكلت.
مقدمة الكتاب
وفيها فصلان
الفصل الأول: في ملخص قصة يوسف عليه السلام
نطقت الكتب المنزلة والآثار، وأطبقت العلماء ورواة الأخبار، بأن يعقوب عليه السلام نبئ في زمن جده إبراهيم، وبعد وفاته بنى على لية ابنة خاله لأبان ثم على راحيل أختها، فرزق من الأولى براءوبين وشمعون ولاوي ويهوذا وإيساخر وزبولون وابنة يقال لها دينا ومن الثانية بيوسف وبنيامين، وماتت في نفاس بنيامين، وخلف من زلفة سرية لية جادا وأشير ومن بلهة سرية راحيل دانا ونفتالي فهؤلاء بنو يعقوب الاثنا عشر وهم الأسباط، وكان يوسف أحب أبنائه إليه وأكرمهم منزلة لديه، فحسده إخوته وأضمروا له السوء، وما زالوا به حتى أرسله أبوه معهم إلى البادية، فأباحوه ما في نفوسهم وأخذه بعضهم فجلد به الأرض، ثم جثم على صدره، وقال له: لتنقذك الآن رؤياك التي كنت ترويها، وتطفئ بها غلة أمانيك الباطلة وترويها، وكان قد رأى وهو ابن سبع عشرة سنة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدين له على تأويل كون الكواكب أخوته والقمرين أباه وخالته، فاستغاث يوسف ب «راءوبين»، وقال له: حل بيني وبين من يريد اغتيالي، فأدركته رحمة الأخوة، وصدهم عنه، فألقوه في غيابة جب، هناك بعد أن نزعوا قميصه، ولبث يوسف في الجب وإخوته يرعون حوله، حتى جاءت سيارة يريدون الرحلة إلى مصر للتجارة، فاستقوا من الجب فتعلق يوسف بالرشاء، فأخرجوه، فجاء إخوته وقالوا : هذا غلام أبق منا فشروه منهم بعشرين درهم، ثم جاء إخوته على قميصه بدم كذب، وأرسلوه إلى أبيهم وساروا إليه عشاء يبكون ويقولون: أكل يوسف الذئب، فاشتد بيعقوب الحزن على فقده، ولم يحل لديه الصبر من بعده، وجاء به السيارة إلى مصر، وأوقفوه بمدينة منف للبيع، فتغالى الناس في ثمنه، واشتراه فوطيفار صاحب سلاح الملك، وكان يوسف قد انتهى إلى ذاته الجمال، وإلى صفاته الكمال، فراودته امرأة العزيز عن نفسه فأبى واستعصم، فتحيلت في الإيقاع به حتى تمكنت حبسه، واجتمع في السجن بصاحب طعام الملك وصاحب شرابه، فتوسما فيه الخير وقص عليه كلاهما رؤياه فعبرها لهما ولم يزل مسجونا حتى رأى الملك حلمه، واستفتى فيه حكماء مصر فلم يأت بتأويله منهم أحد، فاستدعى بواسطة صاحب شرابه يوسف من السجن، فعبره له فعظم في عينه واستوزره، وفوض إليه أمر مصر، وجعله أمينا حفيظا على خزائنها، ثم زوجه بابنة ملك عين شمس. وقد امتلأت الخزائن من القوت في عهد يوسف عليه السلام، فقام بتدبيرها وحسن إدارتها أحسن قيام، لا سيما اختراعه طريقة حفظ البر في سنبله من آفات الفساد، ولما جاء القحط كان يوسف يبيع الميرة بأغلى القيم، أعني مكيال البر بمكيال من الدر، فاشترى أهل مصر بأموالهم فحليهم فماشيتهم فعقارهم فعبيدهم فأبنائهم فرقابهم، وكان يوسف لا يشبع في تلك الأيام، ويقول: أخشى أن أنسى الجائع، وبلغ القحط إلى كنعان، فأرسل يعقوب أبناءه إلى مصر ليمتاروا، وقال: يا بني، قد بلغني أن بمصر ملكا صالحا، فانطلقوا إليه فاقرءوه مني السلام.
فلما جاءوا إلى مصر دخلوا على يوسف فعرفهم وأنكروه، فقال لهم: أخبروني من أنتم؟ وما شأنكم؟ قالوا: نحن قوم من أهل الشام، رعاة أصابنا من الجهد ما أصاب الناس، فجئنا نمتار. فقال: لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي، فقالوا: معاذ الله، ما نحن بجواسيس، إنما نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ كبير يقال له يعقوب، وكنا اثني عشر، فهلك أحدنا في البرية، وكان أحبنا إليه، وقد أمسك أخا له من أمه يستأنس به، فقال: ائتوني به ودعوا أحدكم عندي رهينة، فاقترعوا فيما بينهم فأصابت القرعة شمعون، فخلفوه عنده، ثم جعل يوسف بضاعتهم في رحالهم، فعادوا إلى أبيهم يقولون له: منع منا الكيل، فأرسل معنا أخانا نكتل، فقال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل، وعز عليه أن يبعث به معهم، ثم اضطرته شدة القحط لإرساله، بعد أن ضمنوا له حفظه، فلما دخلوا على يوسف أكرم وفادتهم ودعاهم إلى طعامه، فأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقى بنيامين شقيق يوسف وحيدا يبكي ويقول: لو كان أخي حيا لأجلسني معه، فضمه يوسف إليه، وقال له: أنا أخوك، فلا تبتئس. ثم احتال عليه فوضع الصاع في رحله، وأمر رسله فاتهموه في الظاهر بالسرقة، ولم يقدر إخوته على خلاصه، وعادوا فوقفوا أمام يوسف موقف الذل، فقال لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ وأماط الحجاب عن نفسه، فعرفوه فقالوا: أئنك لأنت يوسف، فقال: أنا يوسف وهذا أخي، فقالوا: تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين، ثم سألهم عن أبيه وأهله، وكلفهم بأن يأتوا بهم إلى مصر أجمعين، فآبوا إلى أرض كنعان وجاءوا بأبيهم، فأكرم يوسف مثواه، وجعل أرض رعمسيس مأواه، وأقام يعقوب بمصر سبع عشرة سنة، ولما حضرته الوفاة أوصى يوسف فحمله إلى الشام، ودفنه مع أبويه إبراهيم وإسحاق، كما أن يوسف قبل وفاته بمصر أوصى بما أوصى به أبوه، فحمل على يدي موسى عليه السلام، ودفن بعد خروج بني إسرائيل من مصر في أرض الشام.
الفصل الثاني: في الدلالة على علو درجة مصر من قصة يوسف
لا يخفى أن صفة المدنية لا تتوفر في أية مملكة من الممالك إلا بوجود أمور ثلاث، حسن الإدارة الملكية، والسياسة العسكرية، ومعرفة الألوهية. ومن تدبر تاريخ مصر القديم يعلم أن أهلها كانوا في غاية الطاعة لأولياء أمورهم، كما أن أولياء الأمور كانوا مقيدين بقوانين كافلة بصلاح الدين والدنيا، كافية في ترقية الأمة إلى الدرجة العليا، وكانت مصر منقسمة إلى عمالات، على كل عمالة حاكم ، وأراضيها منقسمة بين ثلاث طوائف؛ قسم للملك، وقسم لأمناء الدين، وقسم للجنود، وما خلا هذه الطوائف الثلاث طوائف أخر تتعيش من أعمالها وصنائعها. وبالنظر لهذا التقسيم قويت شوكة أمناء الدين، فاختصوا بممارسة العلوم وسن الشرائع والقوانين، وكانت طائفة الجنود بمصر ذات بأس وقوة؛ بدليل أن الملك سيزوستريس جند جيشا عظيما بقصد افتتاح بلاد العراق والعجم والهند، فسار إليها من طريق الشام، وافتتحها بعد استيلائه على بلاد فلسطين، ولو لم تكن جنوده ذات ثبات في مواقع الحروب، ووثبات على اقتحام الكروب، لما اقتضى ثمر النصر من الرقاب، وخلد اسمه في التاريخ على ممر الأحقاب، وكان الدين كذلك مؤسسا على أساس متين، فكان أمناؤه يعتقدون بألوهية ذات علية ليست على صفة البشرية ولهم أسرار عجيبة لا يطلعون عليها، إلا القليل من الناس، وأما منشأ عبادة العامة للأوثان، فلأنهم يؤلهون كل من اخترع أمرا غريبا من قانون أو علم أو فن، فكانوا أصحاب براعة في كثير من العلوم، كالهندسة والمساحة وتقويم البلدان والطب والتاريخ والفلك، وبالنظر لحرص الدولة المصرية على العدل الذي عليه مدار سعادة الممالك انتخبت من مدنها الثلاث - عين شمس وممفيس وطيوة - قضاة ليكونوا أرباب المشورة القضائية وعدتهم ثلاثون، وكان صاحب مصر يعاهدهم على أن لا يطيعوه إذا أمرهم بما لا ينطبق على لائحة أو قانون، وكانت مذاكرة المجلس في المصالح والقضايا والآراء تكتب بالقلم والمحاورة والمناقشة والمرافعة كذلك؛ لئلا يسدل على الحق حجاب الفصاحة، لما في البيان من السحر، وللحق عندهم صورة مجسمة، فإذا تبين الحق لأحد الخصمين رفع رئيس المجلس الصورة بإحدى يديه، وأذن للمحق أن يضع يده عليها إشارة إلى أن القاضي في الواقع إنما هو الحق.
وقد دلت التواريخ على أن ديوان حكومتها كان على غاية من حفظ الرسوم الملوكية المعتبرة والعوائد السلطانية المقررة، ومن أمعن النظر في مبدأ أمر يوسف من اقتصار فوطيفار على سجنه، وعدم المبادرة بالانتقام منه مع كونه مملوكه، علم أن أمور الدولة المصرية كانت تدور على محور الاعتدال التام، ولا يفصل فيها إلا بمقتضى نصوص قوانين وأحكام، ومن هنا يتبين بأن قانون معاملة الرقيق من هذا القبيل لا يسوغ معه للسيد الذي أساء عبده كل الإساءة أن ينتصف منه لنفسه كما يحب ويختار، وأما سجن يوسف مع صاحب طعام الملك وصاحب شرابه؛ فمدلوله أن فرعون مصر كان له أصحاب مناصب في قصره كما في الدول المتمدنة، وأن اثنين منهم اتهما بالخيانة الملوكية؛ أي: أرادة سم الملك، فغضب عليهما وأمر بسجنهما لحين تحقيق دعواهما، ولما اتضح له أن أحدهما مذنب بما يوجب القتل قتله، وأن الآخر بريء فرج عنه فعاد إلى منصبه. ويستنبط من التواريخ الأثرية أيضا أنه كان لفرعون يوسف في كل سنة عيد عظيم لمولده يحتفل بإقامة شعائره في القصر الملوكي، وهو من جملة الأدلة على أن التمدن قديم العهد بمصر. ومما يؤيد ما كان لديوان فرعون من الرسوم التي يحافظ عليها بدون تسامح، أنه لما مات يعقوب وحزن عليه يوسف حزن بني إسرائيل اجتنب أن يتمثل بين يدي فرعون في ديوانه وهو بزي الحزن، ومن المعلوم أنه لا يتصف بهذه الآداب الرسمية إلا الجمعية ذات التقدم في المعارف والمدنية، ولا مرية في أن سائر ما ألفته الدول المتأخرة من العوائد في هذا العصر، كان له نظير في الدول القديمة التي حكمت على مصر، فليس التمدن من خصوصيات الأزمان الأخيرة، وإنما الذوقيات تختلف بما يلائم طباع الوقت في أمور كثيرة، ومع ذلك فكل نبي بعث في أي جيل هو على تقدمه أقوى حجة وأقوى دليل.
Halaman tidak diketahui