وبعد برهة قصيرة وصلت الجماعة إلى المنزل فخف أبناء فارس يحيون والدهم الجالس تحت شجرة الطلح يدخن لفافته بهدوء وسكينة، وكان طائر يغني في الأبعاد ألحانه المملة، فسألت الفتاة الصغيرة أمها قائلة: ما الذي يغني في الأبعاد؟ فأجابتها الأم: هذه تباشير الصيف يا بنيتي! فقالت الفتاة: وأين هو؟ فقالت: لا أدري، ولا أحد يدري، إنه يعلن قدومه بألحان طائر، ولكن هذا الطائر منيع عن أن يدركه أحد. فقالت الفتاة: آه! لو كان فريد هنا لما تعذر عليه أن يجيئني به؛ لأنه يدرك أماكن العشاش كلها! عند هذا تراءى فريد والفتاة الصغيرة ولبيب راغب الذين سئموا المنزل فأسرعوا إلى ملاقاة عائلة فارس، وبعد ساعات طويلة سمعت الأجراس تدق في جونية معلنة صلاة العصر، فقالت السيدة فارس بصوت عذب: «لقد أزفت ساعة التبريك أيها الصغار، فلنسجد بخشوع وتؤدة ولنطلب منه أن يمنحنا بركته الإلهية! فالتوت الركب في الأعشاب المزهرة وانحنت الجباه تحت ظلال الأغصان، فشخصت السيدة فارس إلى الجباه الخاشعة جامعة كلتا يديها وقالت: باركنا يا الله، واحرسنا بعنايتك، شكرا لك على ما أسبغت علينا من النعم، وعلى هذا الأحد العذب والشمس الجميلة، ولكن لماذا أوليتنا كل هذه الحسنات دون سوانا من البؤساء المساكين؟ فنحن نعطف على إخوتنا الفقراء ونسألك أن تهبهم بعضا من السعادة التي وهبتنا إياها.»
ولما سكتت السيدة فارس بقي الأولاد يفكرون بعض ثوان حتى تخلل الصمت صوت الفتاة الصغيرة: من هم إخوتنا الفقراء يا سيدة فارس؟ فأراد فريد أن يقول لها: إنهم أولاد بؤساء نظيره لا ملجأ لهم ولا من يتعهدهم بعناية وشفقة، يصرفون الحياة تحت سلطة والد ظالم سكير وإخوة أردياء أشرار، إلا أنهم يفتقرون إلى عطف السيدة فارس ومحبتها ولا يتسع لهم كما يتسع له أن يقضوا أيام الآحاد بقربها يتمتعون بحنانها وعذوبتها.
عند هذا تأبط فارس ذراع امرأته واتجه إلى منزله تتبعه نظرات فريد وابنة أديب الصغيرة.
5
كان الجمهور مزدحما تحت شجرة الطلح في ذلك المساء، وكان السيد أديب يهيئ غذاءه المؤلف من البطاطا والباقلاء المالح والسلطة، في حين كان بطرس وعزيز ونجيب يتحدثون عن مسئولية صدام حدث في الصباح بالقرب من محطة «عينطورا»، أما النساء فقد كن يتساءلن عن السبب الذي أدى إلى ذلك الصدام، وعن إهمال المحقق وفتور المفتش، إلى أن قالت إحداهن: إن من الصعب أن يتفق إيجاد قوم صالحين يقومون بما عهد إليهم حق القيام. فقال نجيب: لا يجب علينا أن نتأسف إلى هذا الحد، فلقد سافرت إلى مدن عديدة واختبرت كثيرا من الرجال فلم أجد فيما رأيت ومن اختبرت رؤساء أعدل وأنبه من رؤسائنا، ألا فلننظر مثلا إلى السيد راغب، فهو مثال الجد والنشاط، ويندر أن نراه مهملا أمر محطته في أية حالة من الحالات. فأجاب سالم السكير بعد أن نزع غليونه من بين شفتيه: أجل، إن الرئيس لرجل مجتهد، ولكنه يتطلب من عملته أكثر مما يتسع لهم، فهو ظالم إلى حد الكفر. فنهض أديب عن المنضدة وقال: أراك تتظلم يا سالم، ولكن ثق بأنني لو رأيت بين عمالي من يعاقر الخمر مثلك لما ترددت عن طرده، إلا أن الرئيس أصر على إبقائك رحمة بعائلتك، فلا تظن أنه يجهل ما وراء سلوكك من المخاطر العظيمة، وكن على ثقة بأنه يضطر إلى مضاعفة الحراسة باحتفاظه عليك. فصرح بطرس قائلا: إنني من رأي سالم، فالرئيس شديد التعنت كثير المطاليب، فهو لا يسأل عماله أن يقوموا فقط بما يترتب عليهم، بل يريد أن يكونوا غيورين أولي حمية وهمة! ... ولم الحمية والغيرة؟ ألأجل الشركة؟ إنني أسمعه يقول دائما: «كونوا لطفاء مع المسافرين لإعلاء اسم الشركة، لا تتأخروا عن تسليم البريد لكي تمتاز الشركة عن سواها بتسهيل المواصلات، لا يجب أن توقفوا البضائع فترة واحدة. تحرك يا بطرس، فالشركة تنظر إليك بالمرصاد، فهي تحب العمال الغيورين أولي الحمية والهمة ... متى تتوصل إلى أن تفهم كيف يجب أن يكون عامل الشركة النشيط.» إن رئيسنا لسليم الطوية طيب القلب، ولكن طيبة قلبه تؤدي إلى الإزعاج والكدر. من يجهل أن الشركة هي جماعة من المساهمين لهم أغراضهم ومطامعهم لا هم لهم إلا قبض مقاسيمهم الجسيمة؟ فعارضه نجيب بقوله: إن الشركة هي غير ما ظننت يا بطرس. - وما هي إذن؟ - هي جماعة من المساهمين إذا شئت، ولكنها فوق ذلك تلك الكتيبة من العملة الصالحين الذين يشتركون في جهاد واحد هو من العظمة بمكان، والذين يوطدون دعائم تجارتنا وصناعتنا وحياتنا الاجتماعية. آه يا بطرس! إنك من تلك المدرسة الحديثة التي تنتقد وتهزأ وتتأسف! فهذه المدرسة يا صديقي تدفع إلى التمرد، والتمرد يدفع إلى الثورة، غير أنا - نحن العملة الأقدمين - لا نماثلكم في شيء من هذا؛ إذ إننا نحب مهنتنا حبا شديدا ...
فقاطعه بطرس قائلا: يا لها مهنة شريفة! أتعتقد أنه من المستحب أن يصرف العامل شبابه في وزن الأحمال وفحص السندات المقبوضة؟ فأجابه نجيب: ذلك لأنك لا تنظر إلى أبعد من ميزانك أو من ورقتك الخضراء! إن من لا يجمع إلى مهنته بعضا من التصور لا يمكنه أن يتعشقها! - وما معنى التصور في السكة الحديدية؟ - التصور؟ ... أنا عندما أكون مهتما بتدوين بعض الأرقام في مكتبي أفكر فيما يئول إليه اعتنائي ودقتي، وما وراء كدي واجتهادي من المنفعة التي تعلي شأن تجارنا وترفع معاملنا إلى مستوى المعامل الراقية في العالم، وعندما أبصر قطارا من قطرنا يتجه نحو باريس مقلا الأغلال في عجلته أفكر في جهاد المزارعين الذي أكسب أرض الوطن ثراء وحياة ... - هذا بعض الشيء الحسن! ... - أتظن أن ذلك أمر لا قيمة له؟ أترى أن ذلك سرور مهمل لمن هو مثلنا حقير؟ أتعتقد أن من يشعر بجهاد لبنان يمر بين يديه ويندفع إلى حيث تكثر الأغلال والذهب وجهود آلاف من الأذرع المجهولة لا ذكر له في هذا العالم ولا فضل؟ أجل، نحن عمال بؤساء، ولكننا ندير دولاب العمل والثراء في أرض الوطن. وإذا دهم هذا الخصب ولحق به النهب يوما، إذا هجم العدو على حدودنا ونادت الأبواق والأجراس الشعب إلى الحرب، فمن يهب للذود عن الحياض قبل العمال والبؤساء؟ وإلى من يعهد الوطن بالقيام بالواجب المقدس قبل أن يعهد به إلينا؟ إنني لن أتمنى الحرب يا بطرس، إلا أنني لا أضمن تجنبها وتحاشيها. سيجيء يوم نضطر فيه أن ننهض لدفع العدو وإنجاء البلاد من شره! سيجيء يوم يتم فيه للعدو سن سيوفه الطماعة، فيثب وثبة النمر الجائع ليستثمر استعداده الحربي، عند هذا تدرك الشعوب كلها أي دور عظيم تمثله السكك الحديدية في ملعب الدفاع عن الوطن! سيعهد إلينا بإخراج الجرحى إلى المستشفيات البعيدة، بإقلال الرسائل - رسائل الأهل والمحبين - إلى الجنود الأعزاء والأسرى المساكين! ألا تظن يا بطرس أن عمال السكك الحديدية سيتاح لهم يوما أن يكتبوا صفحة المجد والبطولة والتضحية في مطاوي التاريخ؟
فصرخ أديب قائلا: مرحى يا نجيب مرحى! إن من الفخر أن نسمعك تتغنى بهذا الكلام الطيب، فأيد عزيز كلام أديب بإشارة من رأسه، أما بطرس فقد هان عليه أن يتظاهر بالاندحار فأخذ يسخر قائلا: إنكم لنعاج صغيرة أوجدتكم الحياة لتجز صوفكم. فأجاب عزيز: فلنعد إلى العمل يا بطرس حتى يحين وقت الجز؛ لأننا لم ننجز بعد القيام بخدمتنا، وهذا قطار بيروت يعلن قدومه!
قال هذا ونزلوا إلى المحطة. أما فريد فأخذ يد نجيب وقال له بصوت خافت: عندما أكبر أنخرط في سلك عمال السكة! وسمع صوت الفتاة ابنة أديب تقول بتوسل: حدثنا عن أيام جنديتك يا سيد نجيب! فأظهر النساء ارتياحهن إلى هذا الطلب فقلن: أجل! أجل! يا سيد نجيب!
كان نجيب رجلا أعزب صلب الإرادة، لا يلذ له شيء كإيقاظ ذكرياته المضجعة في زوايا مخيلته؛ فطالما صرف ساعات الفراغ في استحضار مشاهد العرب الرحل في مطارح الصحراء، وإحياء ماضيه الطافح بتذكارات الجزائر والجوامع البيضاء وكثبان الرمال ونخيل الرياض وقوافل الجمال والحياة في الخيام أو في رحابة الصحاري ...
ترك الأولاد ألعابهم وتحفلوا حول نجيب ليسمعوا حديثه، فشرع هذا يقص على مسمعهم رحلاته في أفريقيا مصورا لهم جمال الفجر الزاحف على التلال وفي منخفضات الأودية، والليالي العذبة المضمخة بأريج النسمات، وأيام الشتاء السوداء، والراقصات في الأشعة الذهبية المتلألئة على السهول الجديبة.
Halaman tidak diketahui