وكانت الأم سالم قليلة العقل عنيدة سامة حسودة تحب الخصومة، لا سيما مع زوجها السكير، وغالبا ما كانت تسبب لنفسها الضرب والشتيمة، حتى انتهى بها الأمر إلى تعاطي المسكرات لتتناسى الفقر المدقع الذي كان يحيط بها وبأولادها الثلاثة الذين نشئوا على تربية فاسدة، فتمكنت منهم عادة النهب، فجعلوا يسرقون البيض من مراقد الدجاج ليأكلوه نيئا، وينزعون حواجز البساتين ليبيعوها حطبا، ولا يترددون عن سلب الثمار من رياضها، والخضرة من منابتها. أما فريد فقد بقي شريفا بالرغم من المحيط الفاسد الذي يحف به؛ لأن ذكريات أمه كانت تردعه عن ارتكاب المنكر كلما خطر له.
كان فريد في عامه السابع عندما توفى الله أمه منهوكة الجسد من جراء الأعمال المرهقة التي قامت بها طيلة أعوام زواجها، ومن الحسرات والآلام التي كابدتها من زوجها سالم السكير، ولم يمر بعض أشهر على موتها حتى تزوج والد فريد من امرأة أيم لها ولدان، فاستحال المأوى إلى جحيم هائل، وما عتم أن شعر اليتيم البائس بحزن عميق وأدرك أن لا مصيبة أعظم عند الولد من فقد أمه.
كان سالم ينظر بحقارة إلى ولده المتألم ذي المقلتين العذبتين اللتين تحملان في عذوبتهما معاني الحزن والأسى! وكان شديد البغض له والنقمة عليه إلى حد أنه كان مرارا يمسك عنه الطعام ويحظر عليه المبيت في مضجعه.
ذات مساء طرد اليتيم من المنزل فاضطر أن يضطجع على أدراج السلم الخارجية؛ عند هذا فتح باب غرفة محاذية للسلم وخرجت منه فتاة صغيرة في نحو الخامسة من عمرها وتقدمت من فريد قائلة له بصوتها الجميل: لماذا أنت تبكي يا فريد؟ تعال معي فأمي أرسلتني لأجيء بك إليها، ثم أخذت يده وأدخلته إلى أمها وهو يبكي ويضطرب.
تقدمت أم الفتاة من فريد ونظرت إلى عينيه المغرورقتين بالدموع، بتلك الابتسامة الحلوة التي تنطوي على أرق ما في صدور الأمهات، وقالت له: لماذا أنت تبكي يا ولدي؟ فهل أساءوا التصرف معك ومنعوا عنك طعامك؟ ألا، فاجلس على هذا المقعد، وانتظرني ريثما أجيئك بصحيفة من الحساء.
فجلس الولد على حافة كرسي عريض ناظرا بحياء إلى ثيابه الرثة وقدميه العاريتين. وبعد هنيهة جاءته السيدة فارس بكوب حساء سخن وعادت إلى آلة الخياطة تنجز عملها بهدوء وسكينة.
في تلك الساعة كان التوءمان الصغيران يلعبان معا في زاوية من زوايا الغرفة، فاقتربت الفتاة من فريد وقالت له: «كيف وجدت الحساء؟ لماذا أنت تبكي؟ ألا تعرف أن البكاء يؤلمني جد الألم؟»
عند هذا أخذت تسرد على مسمعه قصة مضحكة، فضحك حتى استلقى على ظهره، فسرت الفتاة سرورا لا سرور بعده، والتفتت إلى أمها قائلة : انظري يا أمي، إنه يضحك؛ فقد نسي آلامه، كم أني مسرورة الآن! وأنت يا أمي ألست مسرورة؟ فالتفتت الأم إلى ابنتها مستغربة وسألتها بصوت خافت عما يدفعها إلى معاملة فريد تلك المعاملة الحسنة، فأجابت الفتاة: ذلك لأنه بائس رضي الأخلاق، ولكن إذا حدثته نفسه يوما بأن ينزع عما هو عليه، فلا أتردد عن مقته والابتعاد عنه. فسمع الولد ما دار بين الأم وابنتها، فقال بسذاجة: ماذا يجب علي أن أعمل يا سيدتي لكي أحافظ دائما على سيرتي الحسنة؟ فأجابته: يجب أن تضرع إلى الله وتتذكر أمك. فقال: ليس من الصعب علي أن أضرع إلى الله؛ ولكن كيف يتسع لي ذلك في البيت والجميع يهزءون بي وينتهرونني ولا يدعون لي سبيلا للصلاة؟
3
كانت السيدة فارس من تلك النساء الصالحات اللواتي نشأن في وسط مسيحي، وتخلقن بأخلاق شريفة ساذجة؛ فلم تعرف في صغرها إلا كنيسة القرية ومدرسة الراهبات وحنان أمها العذبة التي تعهدتها بتربية طاهرة، وعلمتها محبة القريب، والعطف على البؤساء من أبناء الشعب.
Halaman tidak diketahui