ثم أجهش بالبكاء والنحيب، وقد لذ له أن يستسلم للحسرات أمام الضريح وفي سكون الحقل!
كان يظن نفسه وحيدا لا عين ترقبه؛ لأنه لم ير خيال ولد لطيفا يقترب منه بين أشجار السرو.
كان هذا خيال الفتاة الزرقاء وقد جاءت لتزين ضريح والدها بطاقات من الأزهار حملتها تحت ذراعيها.
وقفت الفتاة وراء فريد وقالت له بصوت ملؤه الحزن: لماذا أنت تبكي يا فريد؟
فانتبه الولد من غيبوبة الحزن وقد استغرب نبرات الفتاة، إلا أنه لم يلبث أن عاد إلى نحيبه بأشد مما كان عليه، فاستطردت قائلة: لقد تغيرت طباعك منذ أيام يا فريد ... فلماذا طلبت إحالتك من جونية؟ أبودك أن تهجرنا؟ - أجل! - ولكن لماذا أنت حزين إلى هذا الحد؟ ماذا صنعوا بك؟ - أشياء لا أستطيع أن أقولها لك! - آه! أتظن أنني لم أحزر؟ إنني في الثالثة عشرة من عمري يا فريد! أترغب في أن أقول لك ما هو سبب شقائك؟ هو أنك تحب لبيبة وهي لا تحبك! ... - أجل، لقد حزرت ... ثم إنها تحب فتى سواي وتريد الاقتران به! - مسكين أنت يا فريد! - آه! لقد أخطأت بقولي لك ذلك! ... لأنك لا تدركين هذه الأمور . - بل أدركها، فلقد أصبحت في عمر أستطيع به أن أفهم آلامك وأرثي لك. - إن عطفك ليواسيني يا عزيزتي، ولكنني استسلمت لآلامي استسلاما لا يحق لي. أتريدين أن أساعدك في وضع الأزهار على الضريح؟ - بطيبة خاطر؛ ولكن أحتاج إلى ماء عذبة أملأ بها آنيتي. - إذن فاتبعيني. إن بالقرب من جدار المقبرة ساقية ماء صغيرة.
كانت الساقية مختبئة تحت أغراس الخيزران ونباتات النعنع فانحنى فريد فوق الماء الجارية ليملأ الآنية الصينية وجلست الفتاة على الأعشاب وأخذت تهيئ أزهارها.
كانت أغراس المقبرة قد لامستها أنامل الخريف فغطت الأرض بثوب من الأوراق الذهبية فقالت الفتاة الزرقاء: إذن تود أن تهجرنا يا فريد، وتترك البيت حزينا بعدك؟
فأجابها الفتى بشيء من الحدة: ولكن سيحتفل بخطبة لبيبة في ذلك البيت! لا، لا أقدر أن أرى تهيئة ذلك العرس! آه يا عزيزتي! أنت لا تدركين ما هو الحب! ...
فتركت الفتاة الأزهار تسقط من يدها ونظرت إلى السماء بعينيها الأثيريتين، وبعد أن وقفت صامتة أمام السر العظيم، شاخصة إلى الغيوم التائهة قالت بصوت ساذج مضطرب طفت عليه عذوبة المساء: ما هو الحب يا فريد؟ - الحب؟ آه! وهل أنا أدري ما هو الحب؟ هو أن ينتظر الإنسان سعادة تجعل الحياة جميلة وعذبة ولا يجد إلا مصائب وآلاما! هو الليل الذي يهبط بعد الفجر!
عند هذا أخذت الفتاة تفكر! ثم رفعت إليه نظرها وقالت: ألا يقدر الإنسان أن يحب مرتين يا فريد؟ - لماذا تسأليني عن ذلك يا عزيزتي؟ - لأني أراك لا تزال في ميعة صباك ويتراءى لي أنك ستجد في طريقك فتيات يحببنك أكثر من لبيبة! ... - أتعتقدين يا عزيزتي أن الفتى يستطيع أن يحب مرتين؟ لا، إن القلب إذا وهب نفسه لن يرجع عن هبته، بل إنه يختبئ في حب واحد حتى إذا ما هزئ بذلك الحب يجف القلب ويموت كهذه الأغراس التي يذبلها الخريف ثم يجددها الشتاء!
Halaman tidak diketahui