تلفظت شفتاه بهذه الكلمات وأسلم الروح!
صدرت أوامر الشركة بأن يحتفل بمأتمه احتفالا مهيبا، فمشت فيه الجموع المؤلفة من رؤساء الشركة ومديري مكاتبها وتلامذة الفنون والجمعية الكاثوليكية بأعلامها؛ وكانت الأكاليل تتراكم فوق الأكاليل، وقد كتب على بعضها هذه العبارة الملأى بالشعور الحي والإقرار بالجميل: إلى الشهيد الذي مات في سبيل إنقاذنا!
مشت الجموع الغفيرة في هذا المأتم حاسرة الرأس خاشعة الطرف وعندما وصل الموكب أمام المحطة لفظ رؤساء الشركة مراثيهم، في حين كانت امرأة الميت وابنتها وولداها يصغون إلى المراثي بخشوع واحترام، وقد أمسكوا الدموع مهابة وإجلالا مخافة أن يدنسوا بها هيبة البطولة الراقدة.
وقف الرئيس أمام عجلات القطار الملأى بالزهور وصرخ قائلا: إن هذا البطل الشهيد لم ينل وسام الشرف ولكن حسراتكم وإعجابكم قد دفنته في كفن المجد. أجل، إن التضحية في سبيل الواجب لأعظم من رموز البطولة؛ وموت هذا الرجل الباسل أحق بالإكرام من موت الجندي في ساحة القتال! ...
عندما وقف القطار أمام محطة جونية انطلقت الدموع من العيون والزفرات من الصدور، في حين كان القرويون والقرويات يلقون الأزهار على التابوت، وقد قطفوها من حدائقهم وسهولهم.
وبعد ساعة حملت الجثة إلى مقبرة القرية حيث وقف الرؤساء ثانية وودعوا الراحل بمراث مؤثرة!
إلا أن راغب تقدم إلى الحفرة وعلى محياه أمارات الأسى يعلوها اصفرار غريب، ورفع رأسه في الشعب ثم بسط ذراعه فوق الضريح وقال بصوت تخللته الدموع: وداعا يا فارس! وداعا أيها البطل! وداعا أيها الصديق! ليس الرؤساء أو الرفاق هم الذين يبكون عليك الآن، بل الإخوة المحبون، الإخوة المعجبون! إنا آسفون عليك من صميم أفئدتنا ولكننا من صميم أفئدتنا مفتخرون! أنت راحل إلى حيث تكافأ كفاء يليق بك ، بعد أن تركت لنا مثلا شريفا يقوينا على التمسك بالواجب! لا يا فارس إن العملة الذين يحيطون بك الآن لن ينسوا تضحيتك العظيمة الملأى بالأمثولات الصالحة. ارحل! ... فلقد وفيت ما عليك للمجد، وبذرت بذور الجهاد المقدس في صدور إخوانك! ... وداعا يا فارس فلقد عرفناك حق المعرفة وأحببناك! ...
8
لقد أصبحت رجلا يا فريد، فأنا أعهد إليك بعائلتي! هذه الكلمات التي تلفظ بها فارس الميت أقلقت بال فريد قلقا أليما! أعهد إليك بعائلتي! عبارة مريبة رسمت هذا الولد الفتى أبا عائلة وهو في التاسعة عشرة من عمره.
إن يتيم أمس، ذلك الفقير المعدم، أصبح اليوم مضطرا أن يدفع إلى عائلته المتبنية ذلك الدين الثقيل، دين العرفان بالجميل! فكان يقول في نفسه: يجب أن أفرح! فعندما كنت في الثانية عشرة وهبت كل ما لدي للعالم ليتسع لي يوما أن أعضد عائلة فارس وأقف لها حياتي وقواي! لقد سنحت لي الفرصة اليوم؛ فذلك المحتضر عهد إلي بعائلته فيجب أن أحقق أحلامي الماضية ولو قامت دونها مصاعب الحياة! ...
Halaman tidak diketahui