في تلك الساعة سطع وجه فريد المجعد وبدت عليه أمارات الغبطة والزهو كأن شبح السعادة أعاره ذلك التبديل الفجائي، أما قلبه فكان ينبض بشدة تحت قميصه الممزق فقال: آه ! سأصبح سعيدا بعد العذاب الأليم! فهل في العالم من هو أكثر سعادة مني؟
9
كانت ليلة آب صافية الأديم تسبح في أمواج عذبة من أشعة القمر، وكان سكان المنزل راقدين في مضاجعهم إلا السيدة فارس، فإنها بقيت تفكر أمام نافذة غرفتها مصغية إلى الأجراس الكهربائية تعلن قدوم القطار الأخير!
في تلك الساعة كانت السيدة بطرس تنتظر زوجها مستلقية بسكون على مقعد من خيزران، وقد استسلمت لأحلام روائية؛ وكانت السيدة فارس ترقب أيضا قدوم زوجها في القطار الأخير، وهي قلقة وجلة تتنازعها عوامل الخوف خلافا لعاداتها، وتنهض من حين إلى حين فتدور دورتين في الغرفة وتقف أمام صورة العذراء قائلة بحرارة وتقوى: أيتها القديسة أزيلي الخوف من قلبي وتكلمي عني وساعديني!
ما الذي سبب هذا الخوف للسيدة فارس؟ أي أمر يريبها في عودة زوج لم يتعمد لها أقل ضرر في حياته؟
ذلك لأنها تبنت فريدا لتنقذه من شر الأم الشرسة قبل أن تعرف رأي زوجها في ذلك. لقد دفعها قلبها الطيب إلى سماع صوت الرحمة فوثبت بها عاطفة الشفقة إلى نجدة المظلوم، فكانت له أما!
عندما أبصرت السيدة أديب فريدا الصغير عائدا بكل هدوء إلى جنب السيدة فارس وابنتها الفتاة الزرقاء ظنت أنه لم يحدث هناك فاجعة أليمة، وببضع كلمات أخبرتها أم الفتاة عما جرى وعطفت قائلة: إنك لا تجهلين يا سيدة أديب أي تأثير موجع تسببه رؤية البائسين للقلوب الحساسة. سأحتفظ بفريد في منزلي وأكون له أما تتعهده بعناية وعطف.
فلم تتردد السيدة أديب أن قالت: إنه لعمل شريف يا سيدة فارس، فقري عينا وثقي بأنني لا أتأخر عن معاونتك في صنيعك الجميل ... ولكن ما يكون من أمر زوجك؟ إن الرجال كما لا يخفى عليك لا يشعرون بالواجب المقدس كما تشعر النساء ... أفتظنين أن ذلك لا يزعجه؟ فأجابتها: كثيرا ما وافقني على كل ما رغبت فيه. - إنك لكثيرة الحظ يا سيدة فارس! أما عندنا فغير ذلك؛ أنت تعرفين أنه زبدة الرجال الكرماء ... ولكن إذا رغبت إليه أن يتبنى فريدا فلا يوافقني إلا على الخصام والنزاع! مع أنا نملك بقعا عديدة من الأرض فضلا عن المنازل التي نؤجرها وعن الفتاة الوحيدة ذات المقلتين السوداوين اللتين تستلزمان مهرا صالحا. - أما نحن فلا نملك ما يوازي ثمنا باهظا في هذه الحياة إلا أننا نكد فوق ما يتسع لنا والله يأخذ الباقي على عهدته!
قالت ذلك وأخذت تفكر في ما قالته لها السيدة أديب فاضطربت اضطرابا شديدا وجعلت تحدث نفسها فيما يلي: ترى ما يجد بيننا إذا استقبح زوجي ما صنعت ولامني على فعلي هذا؟ ففارس لا يذهب في مذهب إيماني، ولا يدرك أن قدحا من الماء يعطى للفقير في سبيل الله لا يبقى بلا أجر! إنه لا يشعر بيد الحكمة الإلهية، تلك اليد العذبة تمتد بحنو وعطف فوق الذين يركنون إليها!
كل هذه الأفكار كانت تتناوب السيدة فارس؛ أما زوجها فكان ينوء تحت أثقال مرهقة فيتجلد ويقاوم.
Halaman tidak diketahui