Culuh Himma
علو الهمة
Genre-genre
(لما خرجنا من المدينة من عند داود الجعفري صرنا إلى الجار، وركبنا البحر وكنا ثلاثة أنفس: أبو زهير المروزي شيخ، وآخر نيسابوري، فركبنا البحر، وكانت الريح في وجوهنا، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر، وضاقت صدورنا، وفني ما كان معنا من الزاد، وبقيت بقية، فخرجنا إلى البر فجعلنا نمشى أياما على البر، حتى فني ما كان معنا من الزاد والماء، فمشينا يوما وليلة لم يأكل أحد منا شيئا، ولا شربنا، واليوم الثاني كمثل، واليوم الثالث، كل يوم نمشي إلى الليل، فإذا جاء المساء صلينا، وألقينا بأنفسنا حيث كنا، وقد ضعفت أبداننا من الجوع والعطش والعياء، فلما أصبحنا اليوم الثالث جعلنا نمشي على قدر طاقتنا، فسقط الشيخ مغشيا عليه، فجئنا نحركه، وهو لا يعقل، فتركناه، ومشينا أنا وصاحبي النيسابوري قدر فرسخ أو فرسخين، فضعفت، وسقطت مغشيا علي، ومضى صاحبي، وتركنى، فلم يزل هو يمشي، إذ بصر من بعيد قوما قد قربوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى - صلى الله عليه وسلم -، فلما عاينهم لوح بثوبه إليهم، فجاءوه معهم الماء في إداوة فسقوه، وأخذوا بيده، فقال لهم: "رفيقين لي قد ألقوا بأنفسهم مغشيا عليهم"، فما شعرت إلا برجل يصب الماء على وجهي، ففتحت عيني، فقلت: "اسقني"، فصب من الماء في ركوة أو مشربة شيئا يسيرا، وأخذ بيدي، فقلت: "ورائي شيخ ملقى"، قال: "قد ذهب إلى ذاك جماعة"، فأخذ بيدي وأنا أمشي أجر رجلي، ويسقيني شيئا بعد شيء، حتى إذا بلغت إلى عند سفينتهم، وأتوا برفيقي الثالث الشيخ، وأحسنوا إلينا أهل السفينة، فبقينا أياما حتى رجع إلينا أنفسنا، ثم كتبوا لنا كتابا إلى مدينة يقال لها "راية" إلى واليهم، وزودونا من الكعك والسويق والماء، فلم نزل نمشي حتى نفد ما كان معنا من الماء والسويق والكعك، فجعلنا نمشي جياعا عطاشا على شط البحر، حتى وقعنا إلى سلحفاة قد رمى به البحر مثل الترس، فعمدنا إلى حجر كبير فضربنا على ظهر السلحفاة، فانفلق ظهره، وإذا فيها مثل صفرة البيض، فأخذنا من بعض الأصداف الملقى على شط البحر، فجعلنا نغترف من ذلك الأصفر، فنتحساه حتى سكن عنا الجوع والعطش، ثم مررنا وتحملنا حتى دخلنا مدينة "الراية"، وأوصلنا الكتاب إلى عاملهم، فأنزلنا في داره، وأحسن إلينا، وكان يقدم إلينا كل يوم القرع، ويقول لخادمه: "هات لهم باليقطين المبارك"، فيقدم إلينا ذاك اليقطين من الخبز أياما، فقال واحد منا بالفارسية: "لا تدعو باللحم المشئوم؟ "، وجعل يسمع الرجل صاحب الدار، فقال: "أنا أحسن بالفارسية: فإن جدتي كانت هرويه"، فأتانا بعد ذلك باللحم، ثم خرجنا من هناك، وزودنا إلى أن بلغنا مصر).
وقال بكر بن حمدان المروزي: (سمعت ابن خراش يقول: شربت بولي في طلب هذا الشأن -يعني طلب الحديث- خمس مرات).
وذلك أنه كان يمشي في الفلوات والقفار لتحصيل الحديث وتلقيه عن أهله، فيناله العطش الشديد في طريقه!
Halaman 163