Kopernikus Darwin Freud
كوبرنيكوس وداروين وفرويد: ثورات في تاريخ وفلسفة العلم
Genre-genre
ثالثا: ثمة أسباب أكثر ديناميكية لعدم اعتبار عمل كوبرنيكوس ثورة علمية. يستخدم كوبرنيكوس نظرية الزخم لإضفاء حركة دائرية طبيعية على الأرض. وهذا ما يفسر سبب عدم انهيار المباني على الأرض عندما تدور الأرض، ولكنه لا يجيب على السؤال الرئيس لعلم الفلك في القرن السادس عشر: لماذا تدور الكواكب حول الشمس بسرعات متفاوتة وعلى مسافات مختلفة؟ يقدم كوبرنيكوس أدوات هندسية، وتعين على كبلر أن يحل قوانين فيزيائية محلها. ولكن لم يكن كوبرنيكوس يمتلك فكرة عن مفهوم القصور الذاتي أو الجاذبية. تسمح فكرة دوران الكواكب حول الشمس لكوبرنيكوس بالتخلي عن أفلاك التدوير الكبيرة، ولكن فكرة الحركة الدائرية الثابتة تجبره على استخدام أفلاك تدوير صغيرة. ومن وجهة النظر الرياضية، لا يتمتع نظامه بكثير من البساطة. أما من وجهة النظر الفيزيائية، فإنه يترك أسئلة استفسارية دون إجابة.
ومع ذلك، بدأ كوبرنيكوس «تحولا» كوبرنيكيا (دراير 1953، 342-343)؛ فقد صاحب تغيير منظوره بعض المزايا الجديرة بالملاحظة لعلم الفلك؛ فكما يؤكد ريتيكوس مرارا وتكرارا، الأمر الأكثر أهمية هو أن كوبرنيكوس يربط الكواكب معا في نظام متسق. فإذا أزلت أي فلك من مكانه، ستسبب تعطيل النظام بأكمله (ريتيكوس 1540، 147؛ كوبرنيكوس 1543، تمهيد). وكما رأينا، كان كوبرنيكوس مدركا بشدة لأهمية الاتساق:
حركة الأرض تربط معا ترتيب وحجم الدوائر المدارية للنجوم السيارة. (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الخامس ، مقدمة)
وأدرك كبلر أيضا هذه الميزة على نحو واضح للغاية:
تعامل بطليموس مع الكواكب كل على حدة، أما كوبرنيكوس وبراهي فقد قارنا الكواكب بعضها ببعض. (كبلر 1618-1619، الكتاب الأول، الجزء الأول)
إن مفهوم اتساق ظواهر الكواكب يلزم الكوبرنيكيين ببناء نموذج لنظام الكواكب يجب أن يستوعب جميع البيانات التجريبية المعروفة. وحقق نموذج كوبرنيكوس في هذا الصدد نجاحا جزئيا؛ فعن طريق الربط بين حركة «النجوم السيارة» و«الحركة الدائرية للأرض»، فإن «كل الظواهر» تتبع ذلك، هذا ما يذهب إليه كوبرنيكوس (كوبرنيكوس 1543، تمهيد). وعلى الرغم من أنها لم تتبع جميعها ذلك، فإن النظام الكوبرنيكي يفسر على نحو طبيعي ظاهرة حركة الدوران القهقرية للكواكب وفصول السنة، كما يحدد على نحو صحيح ترتيب الكواكب والمسافات وبعدها النسبي عن الشمس (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). كما أنه يجعل الحركة اليومية والسنوية للأرض حول الشمس حقيقة واقعة، وليست جهازا حسابيا (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). وتوفر نجاحات وإخفاقات النظام الكوبرنيكي مؤشرات مفيدة لمعايير الثورات العلمية. (4-1) الأسلوب الكوبرنيكي
في وسط كل هذه الأجرام تقبع الشمس (...) كما لو كانت تجلس على عرش ملكي، تحكم أسرة النجوم التي تدور حولها. (كوبرنيكوس، «عن دورات الأفلاك السماوية» (1543)، الكتاب الأول، الفصل 10، مقتبسة في جنجريتش «عين السماء» (1993)، 34)
رغم اعتماد كوبرنيكوس إلى حد بعيد على مشاهدات قديمة، فإنه كان معتادا على القيام بمشاهداته الخاصة. في الوقت نفسه كان كوبرنيكوس على علم بالعمل النظري الذي قدمه أسلافه؛ فهو يبدي كثيرا من الاحترام لبطليموس. ومما لا يثير الدهشة وجود تنويه محفوظ خاص بأرسطرخس الساموسي الذي استبق فكرة النظام الشمسي المركز. وكما كانت أعمال أسلاف كوبرنيكوس تمهيدا له، فقد كانت أعماله هو نفسه تمهيدا لأعمال تشارلز داروين. ثمة نوعان من العناصر الجديرة بالذكر في قصص الاكتشاف هذه. يدخل كوبرنيكوس - وينطبق هذا أيضا على داروين كما سنرى - فضاء مفاهيميا تتنافس فيه بالفعل بعض الأفكار النظرية للحصول على الانتباه، وتدعي هذه الأفكار النظرية أنها قادرة على تفسير «الظواهر». يصل نموذج كوبرنيكوس إلى بيئة مأهولة؛ فهذا الفضاء المفاهيمي يستوعب بالفعل نظاما محكما أرضي المركز، وتقريرا غير مفصل عن مركزية الشمس، ومشاهدات قديمة، ونظرية الزخم الخاصة بالحركة. وكما نعلم، قام كوبرنيكوس بالمشاهدات الخاصة به، التي - مع ذلك - لم تؤد إلى اكتشافات جديدة. يسمح لنا وجود فضاء مفاهيمي أن نستنتج نقطتين؛ أولاهما: أن كوبرنيكوس لم يصل إلى نظامه الشمسي المركز عن طريق إجراء تعميم استقرائي على المشاهدات المتاحة، وثانيهما: أننا نجد في الكتاب الأول من «عن دورات الأفلاك السماوية» وفي «النبذة الوصفية الأولى» تقديرا تاما واضحا لمناقب نماذج النظام الشمسي المتناقضة وعيوبها.
ترك لنا ريتيكوس بيانا مقتضبا عن الأسلوب الكوبرنيكي. فأشار إلى أن كوبرنيكوس قارن في البداية المشاهدات من العصور القديمة والعصور الوسطى باستنتاجاته، «ساعيا لإيجاد علاقة متبادلة تحدث توافقا بينها جميعا» (ريتيكوس 1540، 163). ثم قارن تلك المشاهدات مع «فرضيات بطليموس والقدماء». وتبين من الفحص أن الفرضيات القديمة لم تصمد أمام الاختبار. واضطر كوبرنيكوس لتبني فرضيات جديدة، وجد عناصرها - كما اعترف بنفسه - في المعرفة الفلكية المخزونة الموجودة بالفعل. ينمق ريتيكوس الصورة. رفض كوبرنيكوس فرضية مركزية الأرض لأنها مفرطة التعقيد وتتطلب أشياء كثيرة، وليس لأنها كانت في تناقض مباشر مع المشاهدات. في رسمه للنظام الشمسي المركز في (كتاب «الشرح المختصر») - الذي لم يكن موجودا منه سوى نسخ مكتوبة بخط اليد أثناء حياته - يعترف كوبرنيكوس بأن النظام البطلمي «متوافق مع البيانات الرقمية»، ومع ذلك، فإنه يتطلب أيضا الجهاز الهندسي «الموازن»، الذي يراه كوبرنيكوس مكروها من الناحية الجمالية؛ فهو ينتهك إيمانه باتساق وانتظام السماوات (كوبرنيكوس، «الشرح المختصر»، 1959، 57؛ انظر روزن 1959، 38؛ 1984، 67). قدم كوبرنيكوس فرضية بمركزية الشمس على خلفية من نظرية مركزية الأرض. ويواصل ريتيكوس قائلا إنه من خلال تطبيق الرياضيات، فإن كوبرنيكوس:
يرسخ هندسيا الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها منها (أي الفرضيات الجديدة) عن طريق «الاستدلال» الصحيح، وبعد ذلك يحدث توافقا للمشاهدات القديمة وبياناته مع الفرضيات التي تبناها، وبعد تنفيذ جميع هذه العمليات يكتب أخيرا قوانين علم الفلك. (ريتيكوس 1540، 163) «قوانين علم الفلك» هي الأفلاك الدائرية المنتظمة، التي استبدلها كبلر. المهم في السياق الحالي هو ملاحظة أن كوبرنيكوس قدم «استنتاجات»؛ فهو يستخدم البيانات المتاحة من أجل استنتاج أن النموذج البطلمي لم يكن ملائما. وفي الوقت نفسه، يستنتج من البيانات أن الفرضية الكوبرنيكية أكثر ملاءمة. ولا تتكون البيانات المتاحة فقط من المشاهدات؛ فيستخدم كوبرنيكوس فكرة الزخم لتفادي الحجج التقليدية المقبولة ظاهريا ضد حركة الأرض؛ ومن ثم فإن الاستنتاج الكوبرنيكي ثنائي الاتجاه؛ فالمشاهدات نفسها التي تشكك في النماذج الأرضية المركز تضفي بعض المصداقية على النموذج الشمسي المركز. وعلاوة على ذلك، نشأت النتائج الاستنباطية من النموذج شمسي المركز، وهي متلائمة على نحو أفضل مع المشاهدات؛ فعلى سبيل المثال، الترتيب الصحيح للكواكب والمسافات النسبية لها يمثل نتائج استنباطية للنموذج الشمسي المركز. وكان أيضا من النتائج الاستنباطية للنموذج الشمسي المركز إدراك أن حركة الدوران القهقري للكواكب ما هي إلا صنيعة النموذج الأرضي المركز، كما سنرى، الممارسات الاستنباطية ذات أهمية كبيرة في تاريخ العلم. ولا يجب الخلط بينها وبين الاستقراء من خلال الإحصاء. واجه العلماء أمثال كوبرنيكوس الأدلة المتاحة والنماذج المتنافسة. فيستخدمون الأدلة الرصدية وغيرها من المعايير، مثل احتمالية التفسير، لاستنتاج أن بعض النماذج أكثر ملاءمة من غيرها. وتمثل الأدلة الرصدية، ودراسة الاحتمالات، ونظرية زخم الحركة الآن قيودا مفروضة على قبول النماذج المتنافسة. وسوف نتعامل في فصل لاحق مع هذا الإجراء الأساسي - استنتاج الملاءمة المعرفية لأحد النماذج من القيود المتاحة والتشكيك في الوقت نفسه في نموذج منافس - على أنه طريقة «الاستقراء الإقصائي». إننا نواجه منافسة بين نماذج متنافسة تدعي تفسير الأدلة المتاحة. ويستند كل نموذج إلى فرضيات مختلفة - فرضية مركزية الأرض مقابل مركزية الشمس - ولكن لا يوجد نموذج يتمتع بالصلاحية المطلقة. بالأحرى، هي مسألة قيمة تفسيرية. بالنظر إلى المشاهدات وغيرها من القيود، أي النظامين يوفر تفسيرا «أكثر احتمالا»؟ سوف نجد هذا التوجه الذهني في داروين؛ ففرضية الانتقاء الطبيعي هي تفسير أكثر احتمالا لتنوع الأنواع من حجة التصميم. استخدم الكوبرنيكيون حجج «الاحتمالات» لصالح مركزية الشمس، فقالوا إن دوران الأرض مرة واحدة حول محورها في 24 ساعة أكثر احتمالا على المستوى الفيزيائي من دوران فلك النجوم الثابتة «بسرعة لا يمكن حسابها» في نفس الفترة حول الأرض الثابتة (كبلر 1618-1621، الجزء الأول). وهكذا، يواصل كبلر قائلا: (...) إن من الأكثر احتمالا وجوب أن يكون فلك النجوم الثابتة أكبر بألف أو ألفي ضعف حجمه الذي أشار إليه القدماء، وليس وجوب أن يكون أسرع بأربعة وعشرين ألف ضعف سرعته التي أشار إليها كوبرنيكوس. (كبلر 1618-1621، الكتاب الرابع، الجزء الأول)
Halaman tidak diketahui