Compilations of the Authentic Collection and Its Copies: A Theoretical and Practical Study
روايات الجامع الصحيح ونسخه «دراسة نظرية تطبيقية»
Penerbit
دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٤٢٤ هـ - ٢٠١٣ م
Lokasi Penerbit
الفيوم - جمهورية مصر العربية
Genre-genre
روايات الجامع الصحيح ونسخه
دراسة نظرية تطبيقية
تأليف
دكتور جمعة فتحي عبد الحليم
أصل الكتاب رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراة في الحديث
بكلية أصول الدين - جامعة الأزهر
إشراف
أد. أحمد عمر هاشم، أد. مصطفي محمد أبو عمارة
مناقشة وفحص
أد. مروان شاهين، أد. محمد بكار، أد. عزت عطية، أد. عبد المهدي عبد القادر
مراجعة
أد. أحمد معبد عبد الكريم
دار الفلاح
للبحث العلمي وتحقيق التراث
Halaman tidak diketahui
الطبعة الأولى
١٤٢٤ هـ - ٢٠١٣ م
جميع الحقوق محفوظة لدار الفلاح ولا يجوز نشر هذا الكتاب بأي صيغة أو تصويره PDF إلا بإذن خطي من صاحب الدار الأستاذ / خالد الرّبّاط أو دار ابن حزم
إصدارات
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية
دولة قطر
دار الفلاح
للبحث العلمي وتحقيق الثراث
١٨ شارع أحمس - حي الجامعة - الفيوم
ت: ٠١٠٠٠٠٥٩٢٠٠
بالتعاون مع
دار ابن حزم
بيروت - لبنان
1 / 2
روايات الجامع الصحيح ونسخه
دراسة نظرية تطبيقية
1 / 3
مقدمة كتاب روايات الجامع الصحيح
الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخاتم رسله، وبعد، فإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر - وقد وفقها الله لأن تضرب بسهم في نشر الكتب النافعة للأمة - لتحمد الله ﷾ على أن ما أصدرته قد نال الرضا والقبول من أهل العلم.
والمتابع لحركة النشر العلمي لا يخفى عليه جهود دولة قطر في خدمة العلوم الشرعية ورفد المكتبة الإسلامية بنفائس الكتب القديمة والمعاصرة وذلك منذ ما يزيد على ستة عقود، وقد جاء مشروع إحياء التراث الإسلامي والنشر العلمي الذي بدأته الوزارة منذ عدة سنوات امتدادًا لتلك الجهود وسيرًا على تلك المحجة التي عُرفت بها دولة قطر.
ومنذ انطلاقة هذا المشروع المبارك يسَّر الله جلَّ وعلا للوزارة إخراج مجموعة من أمهات كتب العلم في فنون مختلفة معظمها يُطبع لأول مرة، كتفسير العُليمي "فتح الرحمن في تفسير القرآن"، و"مرسوم المصحف" للعُقيلي، و"الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة" لأبي بكر عبد الغني المشتهر باللبيب. و"معاني الأحرف السبعة" لأبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي، تحقيق الدكتور حسن ضياء الدين عتر. و"حاشية مسند الإمام أحمد" للسندي، و"شرحين لموطأ الإمام مالك" لكُل من القنازعي والبوني، و"شرح مسند الإمام الشافعي" للرافعي و"نخب الأفكار شرح معاني الآثار" للبدر العيني، و"مصابيح الجامع" للقاضي بدر الدين الدَّمَاميني، و"التقاسيم والأنواع" للإمام ابن حبان، إضافة إلى "صحيح الإمام ابن خزيمة" بتحقيقه الجديد المتقن، ومثله كتاب "السنن الكبرى" للإمام النسائي المحقَّق على عدة نسخ خطية، و"المخلصيات" لأبي طاهر المخلص، و"مطالع الأنوار" لابن قرقول، و"نهاية المطلب في دراية المذهب"
1 / 4
للإمام الجويني بتحقيقه المتقن للأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله تعالى عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي، و"الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف" للإمام ابن المنذر بمراجعة دقيقة للشيخ الدكتور عبد الله الفقيه عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي أيضًا، و"التبصرة" للإمام اللخمي، و"حاشية الخلوتي" في الفقه الحنبلي، وأخيرًا كتاب: "الأصل" لمحمد بن الحسن الشيباني، كاملًا محققًا على أصول عدة، وفي الطريق إصدارات أخرى مهمة تمثل الفقه الإسلامي في عهوده الأولى.
كما طبعت الوزارة لأول مرة كتاب "جامع الآثار في السير ومولد المختار" لابن ناصر الدين الدمشقي، و"الوجيز في السيرة" و"عصر السيرة" كلاهما للدكتور أكرم ضياء العمري حفظه الله.
وفي معتقد أهل السنة والجماعة على مذهب السلف الصالح أصدرت الوزارة كتابًا نفيسًا لطيفًا وهو: "الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد" لابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله تعالى.
هذا في جانب ما يُنشر لأول مرة من كتب التراث، أما في الدراسات والتآليف المعاصرة فقد نشرت الوزارة مجموعة متميزة من الرسائل العلمية وغيرها منها: "القيمة الاقتصادية للزمن"، و"نوازل الإنجاب"، و"الأحكام المتعلقة بالتدخين" وغيرها، وفي الطريق - بإذن الله تعالى - ما تقر به عيون الباحثين من دراسات معاصرة في القرآن والسنة، والنوازل بأنواعها المختلفة.
واليوم يسر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن تقدم للقارئ الكريم بحثا علميًّا مميزًا، بعنوان "روايات الجامع الصحيح للإمام البخاري ونسخه المختلفة"، وهو بحث جديد في بابه، يشرح كيفية التلقي والرواية عند علماء الأمة لصحيح الإمام البخاري، مع ذكر أسباب اختلاف نسخ الصحيح.
ويتصف البحث بالمنهجية العلمية، مع حسن العرض والتقسيم والتشجير، ويُلمس فيه مقدار الجهد الذي بذله الباحث.
نسأل الله أن ينفع به المسلمين وأن يزيدنا من فضله وتوفيقه.
إدارة الشؤون الإسلامية
1 / 5
روايات الجامع الصحيح ونسخه
دراسة نظرية تطبيقية
تأليف
دكتور جمعة فتحي عبد الحليم
«الجزء الأول»
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله المنعم، مفضل النبيين، المجزل الجواد الكريم، ذي المن العظيم، الذي ابتدأنا بنعمته في الأزل مشيئةً وقدرًا قبل أن نكون خلقًا بشرًا، وقبل أن نُسوَّى أجسامًا وصورًا، ثم اصطنعنا بعد فأكرمنا بمعرفته، وأرشدنا بنور هدايته، علمنا الدين وكنا جُهّالًا، وبصَّرنا السبيل وكنّا ضُلالا، ولولا فضله علينا ورحمته إيانا ما زَكا منا من أحد ولا اهتدى بجهده إلى خير ورشد، و﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجا* قَيِّمًا﴾ [الكهف: ١، ٢] أوضح به مناهج الحق، ونَوَّر سبلَه، وطمس به أعلام الباطل، وعَوَّر طرقه، وشرع فيه الأحكام، وبين فيه الحلال والحرام، ثم بشر وأنذر، ووعد وأوعد، وضرب فيه الأمثال، واقتص عن الأمم السالفة نواصي الأخبار؛ ليكون لنا فيها موعظة وبها اعتبار.
والحمد لله ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وان كانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ [الجمعة: ٢] جعله مهيمنًا على كتابه، ومبينًا له، وقاضيًا على ما أجمل منه بالتفسير، وعلى ما أبهم من ذكره بالبيان والتلخيص؛ ليرفع بذلك من قدره، ويشيد بذكره، فتكون أحكام شرائع دينه صادرة عن بيان قوله وتوقيفه، ثم قرن طاعته بطاعته، وضمن الهُدى في متابعته، فقال: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ﴾ [النساء: ٨٠].
وأحمد الله الذي جعلنا من أمته؛ فأكرمنا بدينه وسنته، وعلمنا منهما ما لم نكن نعلم، وكان فضله علينا عظيمًا.
1 / 7
نحمده على جميع آلائه قديمها وحديثها، تليدها وطريفها، السالفة منها والراهنة، الظاهرة منها والباطنة، حمدَ المعترفين بأسبابه وبآلائه، العاجزين عن مزيد فضله، ونسأله أن يصلي على محمدٍ عبدِهِ ورسولِهِ أفضل صلاة صلاها على نبي من أنبيائه، وأرفعَها درجةً، وأسناها ذكرًا، صلاةً تامةً زاكيةً غاديةً عليه ورائحةً، كما قد جاهد فيه حق جهاده، وناصحه في إرشاد خلقه وعباده، وعادى فيه الأقربين، ووالى الأجانب الأبعدين، وصدعَ بما أُمر حتى أتاه اليقين، وأن يضاعف من بركاته عليه، ويزلف مقامه لديه، وأن يسلم عليه وعلى آله تسليمًا (١).
أما بعد:
لقد أكرم الله تعالى هذه الأمة الإسلامية المحمدية بخصائصَ كثيرةٍ ومزايا وفيرة، منها ما يتعلق بذات الشريعة المطهرة وأنواع العبادات والمعاملات والطاعات والمثوبات يسرًا وسهولة، ومنها ما يتعلق بخدمة الشريعة ونقلها وتبليغها وتدوينها وضبطها وحفظها، وفي كل ناحية من هاتين الناحيتين خصائص غير قليلة.
ومن أهم هذه الخصائص التي أكرم الله بها الأمة الإسلامية في تبليغ الشريعة من السلف إلى الخلف خصيصة الإسناد؛ حيث كان كل واحد منهم ينقل العلم لمن بعده من الخلف سندًا معزوًا إلى قائله، وذلك في كل العلوم حتى إذا منَّ الله على الأمة الإسلامية بتثبيت نصوص الشريعة وعلومها، وأصبحت راسخة البنيان، محفوظة من التغيير والتبديل، تسامح العلماء في أمر الإسناد؛ اعتمادًا منهم على شيوع التدوين وثبوت معالم الدين.
ومعنى الإسناد هو مصدر من قولك: أسندت الحديث إلى قائله، إذا رفعته إليه بذكر ناقله.
_________
(١) مقتبس من مقدمة الخطابي في «أعلام الحديث».
1 / 8
والإسناد هو حكاية طريق متن الحديث، والسند طريق متن الحديث، وسمي سندًا لاعتماد الحفاظ عليه في الحكم بصحة الحديث أو ضعفه، أخذًا من معنى السند لغة، وهو ما استندت إليه من جدار أو غيره.
وحكاية الإسناد ورواية النصوص مُسندةً خصيصةٌ عظيمةٌ، ومَيزةٌ لم تعط للأمم من قبلنا، وهو من الدين بموقع عظيم.
ولقد عقد الإمام مسلم في مقدمة «صحيحه» بابًا في بيان أن الإسناد من الدين، وضمنه بعض أقوال العلماء في بيان منزلة الإسناد من الدين (١) ومنها:
ما نقله عن ابن سيرين ت (١١٠) هـ قال: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَاخُذُونَ دِينَكُمْ (٢).
وقال أيضًا: لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ (٣).
وعن سليمان بن موسى قال: لَقِيتُ طَاوُسًا فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي فُلاَنٌ كَيْتَ وَكَيْتَ. قَالَ: إِنْ كَانَ صَاحِبُكَ مَلِيًّا فَخُذْ عَنْهُ (٤).
_________
(١) وذكر أستاذنا الدكتور مصطفى أبو عمارة في أول كتابه «رواة الحديث وطبقاتهم» مقدمة نفيسة في بيان مكانة الإسناد من الدين، واختصاص الأمة الإسلامية به.
(٢) أخرجه مسلم في المقدمة ١/ ١١، وابن سعد في «الطبقات» ٧/ ١٩٤، والدارمي في «سننه» المقدمة، باب في الحديث عن الثقات ١/ ٤٠٠ (٤٤٣)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» ٢/ ١٥.
(٣) أخرجه مسلم في المقدمة ١/ ١١، والدرامي في «سننه» المقدمة، باب في الحديث عن الثقات ١/ ٣٩٦ (٤٣٠)، وعبد الله بن أحمد في «العلل» ٢/ ٥٥٩ (٤٦٤٠)، وابن عدي في «الكامل» ١/ ٥١٧ (١٤٠٢).
(٤) أخرجه مسلم في المقدمة ١/ ١٢، والدارمي في «سننه) المقدمة، باب في الحديث عن الثقات ١/ ٣٩٥ (٤٢٨)، والعقيلي في «الضعفاء» ١/ ١٢.
1 / 9
وعن أبى الزِّنَاد قال: أَدْرَكْتُ بِالْمَدِينَةِ مِائَةً كُلُّهُمْ مَامُونٌ. مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْحَدِيثُ يُقَالُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ (١).
وعن عبد الله بن المبارك (١٨١) هـ قال: الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ وَلَوْلاَ الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ (٢).
وفي بعض الروايات الأخرى عند غير مسلم زيادة: ولكن إذا قيل له: من حدثك؟ بقي (٣).
وقال أيضًا: بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ. يَعْنِي الإِسْنَادَ (٤).
وقال أبو عبد الله الحاكم في كتابه «معرفة علوم الحديث» بعد ذكره لقول ابن المبارك: الإسناد من الدين - قال: فلولا الإسناد، وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه، لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بُتْرًا (٥).
واعتبر الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (١٢٤) هـ الأحاديث التي ليس لها أسانيد أنها أحاديث ليس لها خُطُم ولا أَزِمَّة.
روى الحاكم بإسناده إلى عتبة بن أبى حكيم أنه كان عند إسحاق بن أبى
_________
(١) أخرجه مسلم في المقدمة ١/ ١٢، وابن عدي في «الكامل» ١/ ٢٥٩، والخطيب في «الكفاية» ص: ٢٥٢.
(٢) أخرجه مسلم في المقدمة ١/ ١٢، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» ٢/ ١٦، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» ٥٨/ ٢٠٤.
(٣) أخرجه الترمذي في «العلل الصغير» في سننه ١/ ٨٠٤، والذهبي في «تذكرة الحفاظ» ٣/ ١٠٥٤.
(٤) أخرجه مسلم في المقدمة ١/ ١٢
(٥) «معرفة علوم الحديث» ص: ١١٥.
1 / 10
فروة (١) وعنده الزهري، قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله، قال رسول الله، وقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبى فروة، ما أجرأك على الله، ألا تسند حديثك، تحدثنا بأحاديث ليس لها خُطُم ولا أَزِمَّة (٢).
وقال شعبة بن الحجاج (١٦٠) هـ: كل حديث ليس فيه: حدثنا أو أخبرنا، فهو خل وبقل (٣).
وقال سفيان الثوري (١٦١) هـ رحمه الله تعالى: الإسناد سلاح المؤمن فإذا لم يكن معه سلاح فبأَي شيء يقاتل (٤).
وقال أيضًا: الإسناد زين الحديث، فمن اعتنى به فهو السعيد (٥).
وقال الإمام الشافعي (٢٠٤) هـ رحمه الله تعالى: مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد، كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب، وفيه أفعى وهو لا يدري (٦).
وقال الحافظ بقية بن الوليد الحمصي (١٩٧) هـ: ذاكرت حماد بن زيد
_________
(١) أحد الضعفاء المتروكين .. ينظر ترجمته في «التاريخ الكبير» ١/ ٣٩٦ (١٢٦٠)، و«الجرح والتعديل» ٢/ ٢٧٧، و«الكامل» لابن عدي ١/ ٥٣١.
(٢) «معرفة علوم الحديث» ص: ١١٥.
(٣) أخرجه ابن الجعد في «مسنده» ص: ٢٢ (٣٠)، وابن عدي في «الكامل» ١/ ١٠٧، وأبو نعيم في «الحلية» ٧/ ٢٤٩. والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» ص: ٥١٧ (٦٤٩)، والخطيب في «الكفاية» ص: ٤١٢، والسمعاني في «أدب الإملاء والاستملاء» ص: ٧.
(٤) أخرجه ابن حبان في «المجروحين» ١/ ٢٧، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» ص: ٨٨ (٧٦)، والسمعاني في «أدب الإملاء» ص: ٨.
(٥) «أدب الإملاء» للسمعاني ص: ٦، ٨.
(٦) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» ٩/ ١٢٥، والحاكم في «المدخل إلى كتاب الأكليل» ١/ ٢٨، وأورده الخليلي في «الإرشاد» ١/ ١٥٤.
1 / 11
بأحاديث، فقال: ما أجودها لو كان لها أجنحة! يعني: إسنادًا (١).
وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن المُعلِّمى رحمه الله تعالى في فاتحة كتاب «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم الرازي: الإنسان يفتقر في دينه ودنياه إلى معلومات كثيرة لا سبيل له إليها إلا بالأخبار، وإذا كان يقع في الأخبار الحق والباطل، والصدق والكذب، والصواب والخطأ، فهو مضطر إلى تمييز ذلك.
وقد هيأ الله ﵎ لنا سَلَفَ صِدْق، حفظوا لنا جميع ما نحتاج إليه من الأخبار في تفسير كتاب ربنا ﷿، وسنة نبينا ﷺ وآثار أصحابه، وقضايا القضاة وفتاوى الفقهاء، واللغة وآدابها والشعر والتاريخ وغير ذلك.
والتزموا وألزموا من بعدهم سَوق تلك الأخبار بالأسانيد، وتتبعوا أحوال الرُّواة التي تساعد على نقد أخبارهم، وحفظوها لنا في جملة ما حفظوا، وتفقدوا أحوال الرُّواة وقضَوا على كل راو بما يستحقه، فميزوا من يحتج بخبره لو انفرد، ومن لا يحتج به إلا إذا اعتضد، ومن لا يحتج به ولكن يستشهد، ومن يعتمد عليه في حال دون أخرى، وما دون ذلك من متساهل ومغفَّل وكذاب.
وعَمَدوا إلى الأخبار فانتقدوها وفحصوها، وخَلَّصُوا لنا منها ما ضمّنوه كتب الصحيح، وتفقدوا الأخبار التي ظاهرها الصحة، وقد علموا - بسعة علمهم ودقة فهمهم - ما يدفعها عن الصحة، فشرحوا عللها وبينوا خللها، وضمّنوها كتب العلل.
وحاولوا مع ذلك إماتة الأخبار الكاذبة، فلم ينقل أفاضلهم منها إلا ما احتاجوا إلى ذكره، للدلالة على كذب راويه أو وهنه، ومن تسامح من
_________
(١) أخرجه العقيلي في «الضعفاء» ١/ ١٦٢ (٢٠٣)، والخطيب في «تاريخ بغداد» ٧/ ١٢٧، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» ١٠/ ٣٤٠.
1 / 12
متأخريهم فروى كل ما سمع فقد بيّن ذلك، وَوَكل الناسَ إلى النقد الذي قد مُهدت قواعده، ونصبت معالمه، فبحق قال المستشرق المحقق مرجليوث: ليفخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم. اهـ.
ولم تقتصر عناية العلماء بالإسناد في الأحاديث المروية عن رسول الله ﷺ فقط، بل امتدت لتشمل كلام الصحابة رضوان الله عليهم وكلام التابعين، ومن تصفح مقدمة الإمام مسلم وغيرها من كتب الحديث المسندة يجد الكثير من أقوال الصحابة، وآثار التابعين مسندة شأنها شأن الحديث المروي عن الرسول ﷺ.
بل امتد الأمر إلى نقل كلام تابعي التابعين بالإسناد، كما نقل مسلم في مقدمة «صحيحه» عن عبد الله بن المبارك المروزي - وهو من تابعي التابعين - قوله مسندًا: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
فهذه الأقوال المنقولة عن كل واحد من الصحابة ومن بعدهم كثير منها منقول بالسند، كما نقل حديث رسول الله ﷺ، فالحديث نقل بالسند؛ لأنه أصل من أصول الدين، وكذلك نقل كلام الصحابة ﵃ بالسند؛ لأنه فهم للدين، وعمل به، وتفسير له من أقرب الناس إلى رسول الله ﷺ، وأعلمهم بكلامه وهديه.
وكذلك نقل كلام التابعين وتابعي التابعين نقلًا بالسند؛ لأنهم أعرف الناس بما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فكل منقول متوقف قبوله أو ردُّه من حيث النقل على السند ونقد المتن، فإن صح السند ولم تظهر علة في متنه تقدح فيه ثبت نقل الخبر، وإن لم يصح انتفى ثبوته، وبهذا المعيار يحاكم كل ما ينقل.
فلذا وجدنا عند العلماء المتقدمين هذا السند يمتد ويتسع، ويتصل بكل علم نقل إليهم، فما نقل من تفسير لآيات القرآن كان بسند، وما نقل من
1 / 13
حديث نبوي كان بسند، وما نقل من تفسير للحديث كان بسند أيضًا؛ وما نقل من أدب أو شعر أو نثر أو فقه أو تاريخ أو لغة كان بسند أيضًا، بل أشد من هذا ما نقل من المسليات أو المضحكات كأخبار الحمقى والمغفلين أو أخبار الأذكياء والنابهين نقل بسند أيضًا.
هكذا انكب السلف الصالح من صحابة وتابعين ومن بعدهم على السنة النبوية وما يتعلق بها من علوم، فانتشر الرُّواة والمحدثون في أروقة المدارس وعَرصات المساجد، وأخذوا يبحثون في أسانيد الأحاديث النبوية ومتونها، فنشأ علم مصطلح الحديث، وطبقات الرجال، والجرح والتعديل، والتراجم؛ توخيًا للدقة، وحرصًا على سلامة السنة من أي تحريف.
ولقد مرَّ التوثيق والتثبت في المرويات بمرحلتين متميزتين في نقل السنة والعناية بها وهما:
١ - مرحلة ما قبل تدوين المصنفات وجمع الأحاديث في دواوينها المعروفة المشهورة.
٢ - مرحلة ما بعد تدوين المصنفات.
ففي المرحلة الأولى: كانت العنايةُ منصبةً على نقلة الآثار، والبحث عن أحوالهم، والتفتيش في مروياتهم، بعد جمعها ومعارضتها، ومن يتحمل عنه، ومن لا يكتب عنه.
وكانت مرويات الرُّواة هي محور معرفة درجة هؤلاء الرُّواة من الضبط والاتقان، أو الخلل والنسيان، أو التساهل وعدم الدقة والاهتمام.
وقد واكب ذلك حصر المرويات، وأودعت في بطون الكتب مرتبة على أنواع مختلفة، فبعضها يحوي الصحيح، وبعضها يحوي الضعيف، وبعضها في معرفة أحوال الرجال، وغيرها من الموضوعات .. إلى غير ذلك.
وهذه المرحلة تكاد لا تتعدى القرن الرابع؛ حيث لم ينته هذا القرن إلا
1 / 14
وقد ظهرت معظم الكتب والمصنفات، وأصبح الاعتماد على ما فيها من كتب.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة ضبط المصنفات بعد مرحلة التدوين، وانقطاع مرحلة الرواية، فكما أبلى المحدثون بلاء حسنًا في المرحلة الأولى، فقد هيأ الله لهذه المرحلة من العلماء من وضع القواعد والمناهج التي تروى بها الكتب.
وكان المتقدمون من علماء المسلمين لا يعطون الاهتمام التام للكتاب، إلا إذا كان راويه الثقة الضابط العدل قد قرأه على مؤلفه، أو كان لديه سند متصل بقراءة الكتاب، وتلقاه من شيوخه عن شيوخهم إلى مؤلفه.
أما الكتاب الذي يجده العالم وجادة، ولم يسمعه من مؤلفه ولا له منه إجازة، فهو عندهم من قبيل الخبر المنقطع المرسل كما قرره علماء المصطلح، وقد منع الأخذَ منه معظمُ المحدثين والفقهاء من المتكلمين، وأجازه المتأخرون بشروط ضيقة؛ لتعذر شرط الرواية في الأعصار المتأخرة، وهذا منهم فيما يوثق بنسبته إلى مؤلفه، أما ما لا يوثق بنسبته فلا اعتداد به بالاتفاق (١).
وما هذا كله إلا ليكون النقل صحيحًا والتوثيق تامًّا، ولتأخذ الكلمة العلمية ثبوتها، وصحتها، وضبطها، وتاريخها، وانتقالها إلى الأجيال اللاحقة على أوثق طريق؛ ولهذا قرروا القاعدة المشهورة في أول كتب آداب البحث والمناظرة وهي:
إن كنت ناقلًا فالصحة، أو مدعيًا فالدليل.
أو كما قال ابن تيمية في كتابه: «مقدمة في أصول التفسير» (٢): العلم إما
_________
(١) ينظر رسالة «الإسناد من الدين» لعبد الفتاح أبو غدة ص: ٣٠ - ٣٥.
(٢) ص: ٥٥.
1 / 15
نقل مُصَدَّق، وإما استدلال مُحَقَّق.
ونحن الآن أمام كتاب هو أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، بذل فيه مؤلفه قصارى جهده لانتقاء مجموعة من الأحاديث التي يرى أنها عنده من أصح الصحيح؛ وفقا لقواعد العلماء وجهابذة هذا الفن، بحيث يكفي الباحث الوقوف على الحديث في هذا الكتاب في الدلالة على صحة الحديث.
وهذا الكتاب هو: «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه» لمؤلفه أبي عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، الجعفي، المولود يوم الجمعة، بعد الصلاة، لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شوال، سنة أربع وتسعين ومائة ببخاري، والمتوفى ليلة السبت، ليلة عيد الفطر، سنة ست وخمسين ومائتين، وكان عمره اثنتين وستين سنة إلا ثلاثةَ عشرَ يومًا، تغمده الله برحمته آمين (١).
ولذا توافد عليه العلماء صغارًا وكبارًا، للسماع وتلقي «الصحيح» منه.
ومما لا شك فيه أنه لم يعرف في تاريخ العلم والحضارة عبر القرون والأجيال، وفي تاريخ التأليف والتصنيف ما عرف عن كتاب «الجامع الصحيح» لمؤلفه محمد بن إسماعيل البخاري.
ولنظرة سريعة على التراث الضخم الذي اتصل بهذا الكتاب شرحًا واختصارًا، وغير ذلك مما تناول جانبًا من جوانب هذا الكتاب، ليدل دلالة قاطعة على مدى اعتناء الأمة الإسلامية بهذا الكتاب، الذي رضيته أصحَّ كتاب
_________
(١) لم أترجم للبخاري لأن مثله لا يُجهل لأهل هذا الشأن، وليس البخاري ممن يترجم له في أوراق أو كراريس، وقد ألف العلماء الأئمة في سيرته كتبا كثيرة وافية.
ومن أوفاها وأكبرها كتاب العلامة الشيخ عبد السلام المباركفوري المتوفى (١٣٤٢) هـ: «سيرة الإمام البخاري» وطبع قديمًا في مجلد، ثم طبع سنة ١٤٢٢ هـ في مجلدين، طبعته دار عالم الفوائد بمكة المكرمةـ.
1 / 16
بعد كتاب الله تعالى، وأوثقَ مصدر للحديث النبوي، وتلقيها له بالقبول، ولا يعرف كتاب من كتب البشر تناوله العلماء والمؤلفون بالشرح والتحشية والتعليق مثلما تناولوا هذا الكتاب.
وقد كان الشرح والتعليق هو المجال العلميَّ الذي تظهر فيه عناية العلماء والمؤلفين في العصور القديمة، ومقياس اهتمامهم بأثر علمي، فكان أكثر الكتب شروحًا وتعليقًا، هو أعظمَ المؤلفات تقديرًا، وأعلاها منزلة، وأكثرَها شهرة، وكان أقلُّ الكتب شروحًا وتعليقًا، أخملَها ذكرًا وأقعدَها شهرة وصيتًا، ويبقى مغمورًا لا يسترعي انتباهًا ولا يثير اهتمامًا.
فإذا أخذ هذا المقياس الذي به تعرف مكانة الكتاب في القرون الماضية، حكمنا بأن «الجامع الصحيح» للبخاري قد فاز بالقدَح المعلى في هذا الميدان، واحتل الصدارة في مكتبتنا الإسلامية.
فقد بلغ عدد شروحه والتعليقات عليه مئاتِ المؤلفات، ثم يلي هذا المقياسَ شدةُ العكوف على دراسة الكتاب، والتهافت على روايته ونقله، والتنافس في حمله ونشره، وضمه إلى الصدور، والعض عليه بالنواجذ، وتوارث الأجيال في تلقيه جيلًا بعد جيل، وكابرًا عن كابر، وطبقةً عن طبقةٍ، حتى لا تعرف فترةٌ من الزمان نسج فيها عليه العنكبوت، وساد عليه الظلام وانقطعت روايته، وتوقفت دراسته، وقد تفرد «الجامع الصحيح» بهذه الميزة بعد كتاب الله تعالى، فقد رواه وأخذه عن مؤلفه أكثر من تسعين ألفًا من الرُّواة والحفاظ، وتسلسل نقله وروايته حتى انتهى هذا الكتاب إلى مؤلفه، وبلغ حد التواتر في شهرته وصحة نقله ونسبته إلى المؤلف، لا ينكر ذلك، ولا يشكك فيه إلا من تشكك في المتواترات والحقائق العلمية التي تثبت بالضرورة، ولا يزال هذا الكتاب موضع الاهتمام والعناية، وموضع التأمل والدراسة، في الحلقات العلمية والجامعات الإسلامية وغيرها في العالم.
1 / 17
ولقد خص هذا الكتاب بالإطباق على أنه قد بلغ أقصى درجات الصحة والتحري في نقل الصحيح الثابت، والاحتياط الذي يبلغ إليه اجتهاد المجتهدين وأمانة النقلة والرواة، وأن المؤلف قد أفرغ فيه جهده، وراعى فيه أدقَّ الشروط التي عرفت في هذا الفن، والتزم فيه التزامات لم تعرف عن مؤلِّف في هذا الميدان، ثم ساعدته في ذلك الملكة الراسخة، التي لا يُرزَقُها إلا واضعو الفنون، والصيارفة الحذاق، الذين لا يعرفهم التاريخ إلا في أزمنة طويلة، وعلى مر القرون والأعصار، فيأتون بما يرزقهم الله من ثقوب النظر، وصحة الحدس، وسرعة الخاطر، وسلامة الفكر، والذوق السليم الذي لا يخطئ، ما لا يرزقه أقرانهم ونظراؤهم - على جلالة قدرهم وغزارة علمهم - فيأتون في هذه الفنون والمقاصد من الحكم الصحيح السريع، والوصول إلى الحقيقة، والاهتداء إلى الصواب بما يشبه الإلهام، وبما يخيل إلى كثير من الناس بأنه فوق الطاقة البشرية.
ومن الظلم والجهل بالحقائق، والتسرع في الحكم، والتقليد الأعمى، أن نخضع أمثال هؤلاء لهذه القواعد المرسومة المحدودة، التي جاءت في كتب من تأخر زمانه على زمانهم، ونزلت مكانته عن مكانتهم، فيؤخذ مثلًا كتاب «تهذيب الكمال» للحافظ المزي (٧٤٢) هـ، أو مختصراته للحافظ ابن حجر (٨٥٢) هـ، أو «ميزان الاعتدال» للحافظ الذَّهَبِيّ (٧٤٨) هـ - على فضل هذه الكتب وفضل مؤلفيها على المشتغلين بعلم الحديث - فيحكم على «الجامع الصحيح» للبخاري، أو «صحيح مسلم» رحمة الله عليهما، أو «الموطأ» للإمام مالك، فيعاد الأمر ويجدد النظر في هذه الكتب التي تلقتها الأمة بالقبول، وبلغ أصحابها إلى أقصى درجات التحقيق والدقة والتحري، وتشرح تشريح الأجسام، وتسلط عليها المقاييس المحدودة التي تقبل النقاش، ويتسع فيها مجال الكلام.
1 / 18
فهذا النوع من القسوة العلمية، والجفاف الفكري سيُحدث فوضى، تتزلزل بها أركان الدين، ويتورط المسلمون في اضطراب قد أغناهم الله عنه.
وليس اتفاق الأمة وعلمائها على أصحية البخاري وفضله على سائر الكتب مجرد اتفاق ومصادفة، ولا عن تواطؤ ومؤامرة، وقد أعاذ الله هذه الأمة التي اختارها لحمل دينه، وتبليغ رسالته من أن تكون فريسة غفلة، أو أن تجتمع على الضلال، بل كان ذلك إلهامًا من الله، ومكافأة على ما قام به مؤلف الكتاب من جهاد في سبيل حفظه للأحاديث النبوية، ثم تحقيقها، وتنقيحها، ومعرفة رجالها ورواتها، وكشف أستار الكذابين والوضاعين، وتمييز الضعفاء والمجروحين، ثم في نقلها ونشرها في الآفاق، وجمعها في مجموعة مهذبة منقحة بحسب الطاقة البشرية.
ولذلك يقول الحافظ ابن دقيق العيد في مقدمة كتابه «الاقتراح في فن الاصطلاح» وهو يذكر طرق توثيق الرواة:
ومنها: تخريج الشيخين أو أحدهما في الصحيح للراوي، محتجين به.
وهذه درجة عالية، لما فيها من الزيادة على الأول، وهو إطباق جمهور الأُمَّةِ أو كلها على تسمية الكتابين بالصحيحين، والرجوع إلى حكم الشيخين بالصحة.
وهذا معنى لم يحصل لغير من خُرِّج عنه في الصحيح، فهو بمنزلة إطباق الأمة، أو أكثرها على تعديل من ذكر فيهما، وقد وجد فيها هؤلاء الرجال المخرج عنهم في الصحيح من تكلَّم فيه بعضهم.
وكان شيخ شيوخنا الحافظ أبو الحسن المَقْدِسي (١) يقول في الرجل الذي يُخَرَّج عنه في الصحيح: هذا جاز القَنْطَرَةَ. يعني بذلك أنه لا يُلتفتُ إلى ما قيل
_________
(١) هو الإمام الحافظ الفقيه المالكي شرف الدين، أبو الحسن علي بن المفضل اللخمي المقدسي الإسكندراني، المتوفى سنة (٦١١) هـ له ترجمة في «تذكرة الحفاظ» ٤/ ١٣٩٠.
1 / 19
فيه، وهكذا نعتقد به ونقول، ولا نخرج عنه إلاَّ ببيان شافٍ وحجَّة ظاهرة، تزيد في غلبة الظنِّ على المعنى الذي قدَّمناه، من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما (١).
ويؤيد ذلك ما قاله ابن حجر (٨٥٢) هـ رحمه الله تعالى في الفصل التاسع في سياق أسماء من طعن فيه من رجال الصحيح: وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب «الصحيح» لأي راوٍ كان مقتضٍ لعدالته عنده، وصحة ضبطه، وعدم غفلته، ولاسيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في «الصحيح»، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما (٢).
وقد هجر في سبيل ذلك راحته، وحظوظ بدنه، ومطالب نفسه، ونسي لذته، وغادر وطنه، واكتفى من الدنيا ببلغة عيش، وسداد رمق، ولقي في سبيله أذىً كثيرًا ومحنة وبلاءً، فكافأه الله على كل ذلك بأن قيض له أفواجًا من العلماء والأذكياء يخدمون كتابه بصنوف من الخدمة، وأنواع من الجهد لم يخطر ببال أي جماعة قبلهم، ولم تتيسر لكتاب بعد كتاب الله، وأشعل في قلوبهم حب هذا الكتاب والسهر على خدمته، حتى لم يشعروا بلذة إلا في شرحه، ونشره، وتحمله، وروايته، ولم يجدوا راحة إلا في تحقيقه وتنقيحه، حتى تكونت هذه المكتبة الواسعة الزاخرة التي لم توجد لكتاب بشري آخر.
وتلك سنة الله في خلقه، فلما حفظ البخاري سنة رسول الله ﷺ، وجاهد في سبيلها حق الجهاد، ووقف كل حياته وكل ما كان يملكه ويمتاز به
_________
(١) «الاقتراح في فن الاصطلاح» في الباب السابع: في معرفة الثقات من الرواة ص: ٢٩ - ٣٠.
(٢) «هدي الساري» ص: ٣٨٤.
1 / 20