فإنّه أورد طرفه في داليّته فقال:
وقوفًا بها صحبي عَلَيّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلّد
فهذا بيت امرؤ القيس بعينه إلاّ أنّه أقام تجلّد مقام تحمّل. وقال العباس بن عبد المطّلب:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعلم
وقال الفرزدق:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعرف
فإنّه بيت العباس بعينه إلاّ أنّه أقام تعرف مقام تعلم.
وأمّا إبدال الألفاظ بما يضادّها في المعنى فهو أيضًا مذموم وسرقة محضة، كقول ابن أبي فنن:
ذهب الزمان برهط حسّان الأُولى ... كانت مناقبهم حديث الغابر
وبقيت في خلف تحلّ ضيوفهم ... فيهم بمنزلة اللئيم الغادر
سود الوجوه لئيمة أحسابهم ... فطس الأنوف من الطراز الآخر
فإنّه عكس قول حسان بن ثابت:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطراز الأوّل
وأمّا أخذ اللفظ كلّه أو بعضه مع تغيير لنظمه فيُسمّى إغارةً ومسخًا، وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون الثاني أبلغ من الأوّل لاختصاصه بفضيلة لا توجد في الأوّل كحسن السبك والإختصار والإيضاح أو زيادة معنىً، وهذا القسم ممدوح مقبول ويُسمّى حسن الإتّباع، كقول بشار بن برد:
لو كنتِ تلقين ما ألقى قسمت لنا ... يومًا نعيش به منكم ونبتهج
لا خير في العيش إن دمنا كذا أبدًا ... لا نلتقي وسبيل الملتقى نهج
قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم ... ما في التلاقي ولا في غيره حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج
أخذ هذا البيت سلم الخاسر فقال في أبيات أوّلها:
بان شبابي فما يحور ... وطال من ليلي القصير
أهدى لي الشوق وهو خلوٌ ... أغنّ في طرفه فتور
وقائل حين شبَّ وجدي ... واشتعل المضمر الستير
لو شئت أسلاك عن هواه ... قلبٌ لأشجانه ذكور
فقلت لا تعجلنّ بلومي ... فإنّما ينبّؤ الخبير
عذّبني والهوى صغيرٌ ... فكيف بي والهوى كبير
من راقب الناس مات غمًّا ... وفاز باللذّة الجسور
فبيت سلم هذا أجود سبكًا وأخصر لفظًا.. ولقد حدّث أحمد بن صالح قال: لمّا بلغ بيت سلم بشارًا غضب واستشاط وحلف أن لا يدخل إليه ولا يُفيده ولا ينفعه مادام حيًّا، فاستشفع إليه بكلّ صديق وكلّ من يثقل عليه ردّه فكلّموه فيه فقال: أدخلوه إليّ، فأدخلوه فاستدناه ثمّ قال له: يا سلم! من الذي يقول: من راقب الناس لم يظفر بحاجته؟ فقال: أنت يا أبا معاذ جعلني الله فداك، قال: فمن ذا الذي يقول: من راقب النّاس مات غمًّا؟ قال: تلميذك وخرِّيجك وعبدك يا أبا معاذ، فاجتذبه إليه وقنّعه بمخصرة كانت بيده ثلاثًا وسلمٌ يقول: لا أعوذ إلى ما تكره يا أبا معاذ، ولا آتي شيئًا تذمّه، وإنّما أنا عبدك وصنيعك، وبشار يقول له: يا فاسق أتجيء إلى معنىً سهرت له عيني وتعب فيه فكري وسبقت الناس إليه فتسرقه ثمّ تختصر له لفظًا يقرّبه لتزري به عَلَيّ وتذهب ببيتي، وهو يحلف له أن لا يعود، والجماعة يسئلونه الرضا والكفّ عنه، فبعد جهد شفّعهم فيه وكفَّ عنه وعن ضربه، ثمّ رجع له ورضي عنه. وسُمّي سلم هذا الخاسر لخسرانه في تجارته، لأنّه باع مصحفًا ورثه واشترى بثمنه عودًا يضرب به، كذا في الأساس.
وكقول بعضهم:
خلقنا لهم في كلّ عين وحاجب ... بسمر القنا والبيض عينًا وحاجبا
أخذه ابن نباته السعدي وأحسن إتّباعه فقال:
خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم ... عيونًا لها وقع السيوف حواجب
فبيت ابن نباته هذا أبلغ لاختصاصه بزيادة معنىً وهو الإشارة إلى انهزامهم حيث أوقع الطعن والضرب على ظهورهم.
وثانيها: أن يكون الثاني دون الأوّل لفوات فضيلة توجد في الأوّل وهو مذموم مردود، كقول أبي تمام من قصيدة في رثاء محمّد بن حميد بن مسلم الطائي وقد استشهد في بعض غزواته:
هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إنّ الزّمان بمثله لبخيل
أخذه أبوالطيب المتنبّي فقال:
أعدى الزمان سخائه فسخا به ... ولقد يكون به الزمان بخيلا
1 / 40